«فى هذا الوقت من السنة، يتبادل الأمريكيون فى مختلف أنحاء البلاد الرسائل القلبية مع الأصدقاء والأحباء، التى تعكس إنجازات ونكسات العام السابق، فيحكون عمن وُلِد ومن تخرّج، من ترقى أو تنقل... هذه الرسائل تسمح لنا بأن نتغلب على المسافات الفاصلة بيننا، وأن نداوم على واحد من التقاليد الأمريكية الأساسية لعدة قرون، وهو التبادل البسيط للقصص.. وبينما تتجمع العائلات حول موائد عطلة هذا الموسم، فإن لدينا فرصة لتبادل قصص التغيير الذى حققناه معا من خلال هذه الحركة». هكذا جاءت رسالة الإيميل من باراك أوباما، التى سمحت التكنولوجيا بتوجيهها لكل شخصٍ «باسمه» من مؤيدى الحزب الديمقراطى والمشتركين فى «خدمة تلقى الرسائل» من الرئيس الأمريكى، فمن المعروف أن حملة أوباما الانتخابية المنادية ب«التغيير» قد وصفت ب«الخلاّقة» «والمجددة» لقدرتها على استقطاب الشباب الأمريكى للتصويت فى الانتخابات الرئاسية عام 2008. الآن وبعد فوز أوباما بالرئاسة، مازلت تلك الحملة نشطة فى تواصلها مع المؤيدين، استعدادا للانتخابات الرئاسية المقبلة فى 2012. ففى رسالته يُذكّر أوباما: «بعد سنوات من سياسات الجمهوريين الفاشلة التى أدت إلى أسوأ أزمة أقتصادية منذ (الكساد الكبير) سنة 1929، اقتصادنا يبدأ فى النمو ثانية.. الديمقراطيون عملوا على: خلق وظائف جديدة، جعل الرعاية الصحية فى متناول الجميع، دعم الاستثمار فى الأعمال الصغيرة، التوسع فى فرص التعليم، وتمهيد الطريق لابتكارات الطاقة المتجددة». إذن ها هو أوباما يحاول «توجيه» الخطاب The Discourse أثناء احتفال الأمريكيين بعيد الميلاد ليشمل «قصص النجاح والتقدم» الذى أحرزه حزبه وحكومته بدلا مما يمكن أن تكون عليه تلك القصص من فقدان وظائف، أزمات ديون، طرد من البيوت لعدم سداد الأقساط أو أى من التداعيات الأخرى للأزمة الاقتصادية الراهنة. وليبرهن فعليا على «تلك القصص الإيجابية»، فرسالته تحوى روابط لكل ولاية، بل كل مدينة وكل حى، من خلالها يعرف المواطن العدد الفعلى للوظائف، للمشروعات الصغيرة وللبيوت التى حافظ عليها أصحابها بعد التعديلات القانونية التى أقرّها الكونجرس بدفعٍ من الديمقراطيين. كذلك فإن مصادر المعلومات موثّقة من أجهزة ووزارات الدولة، ومن قصص شخصية لأفراد تحسنت أوضاعهم، لمن يريد الاطلاع. ثمة مقارنة مع الفارق، إذن، يمكن أن تُعقد بين خطاب الرئيس باراك أوباما «المتودِّد» لمؤيديه ليظلوا على تأييدهم فى الانتخابات الرئاسية القادمة خاصة، بعد أن خسر الديمقراطيون فى انتخابات التجديد النصفى الشهر الماضى، ومقال السيد أحمد عز حول نتائج الانتخابات المنتهية، الذى نُشر فى الجريدة القومية، مقترنا بردود أفعال القراء على موقع الجريدة. فبالرغم من الإحصاءات والأرقام والأدلة التى حاول السيد عز طرحها ليبرهن على استحقاق الحزب الوطنى الحاكم الفوز بنسبة 87% فى انتخابات مجلس الشعب وهى معلومات قابلة لأن تكون مقنعة ولو جزئيا (لو حُقق فى مصادر النسب والأرقام) فإن تعليقات القراء التى وصفت المقال ب«المضحك» تارة وب«اللامنطقية» تارة أخرى كأن تصف كاتبها بأنه «يتحدث عن دولة أخرى» ما يجعل المقال عاكساً لانفصال شديد ما بين ممثلى «الحزب والدولة» فى صورة المقال وممثلى «المجتمع» فيمن كتبوا التعليقات. فمثلا رسالة أوباما لمؤيدى الحزب الديمقراطى «المتشككين»، التى يحاول فيها أن يؤثر عليهم بدعوتهم للحديث الإيجابى حول الإنجازات أثناء مآدب العيد، فيها نوع من «الاستقراء» ومحاولة التأثير فى النتيجة «المقبلة» عن طريق شىء مجرّب قِبلا، وهو قدرة أوباما «الشخصية» على التأثير. فالآن وقد حاول «توجيه» الحديث أثناء التجمع العائلى ليكون أكثر «إيجابية» قد يكون لذلك مردود فعلى فى الانتخابات المقبلة حتى وإن ضَعُفت الاحتمالات. إذن فلأوباما هدفٌ مستقبلىٌ يُخطّط له، فهل لمقال السيد أحمد عز هدف مشابه؟ هنا تصعب المقارنة. فالأخير يبدو كمقالٍ «تبريرى» بالمقام الأول يُعدِِّد أسباب النجاح فى انتخاباتٍ قد تمت بالفعل، ويبدو أن المجتمع المصرى قد حسم تزويرها فى «مخيلته» على الأقل حتى وإن لم تثبت ادعاءات التزوير قضائيا بدرجة تُبطِل النتيجة وتحل المجلس. فإن دل هذا المقال عن شىء فقد يدل على أن«الدولة» لا يمكن أن تستخدم «القوة الفعلية Actual Force» طوال الوقت، بل إنها تعاود و«تستقطب» و«تتحاور» و«تبرر«» و«تتقرب». فهى لا تحكم ذاتها ولا تتحكم كليا فى المجتمع الذى « تُصوِّر» ذاتها حاكمة له. ففى كتابه الأكاديمى الشهير «الدولة فى المجتمع» يطرح «جول مجدال» رؤية لمفهوم «الدولة» التى يقسمها ما بين «صورة» و«ممارسات». ففى نظر مجدال «الدولة» ليست كيانا «قويا» «متكاملا» «مهيمنا» «تأثيره أحادى الاتجاه» على المجتمع ولكن «الدولة» دائما ما تحاول رسم تلك «الصورة» رغم سمات التفكك التى تتسم بها. فبالرغم من «الصورة» فإن «ممارسات الدولة»، كفرض سياسات محددة لإحداث تأثير معين، ليست دائما تحت السيطرة التامة نظرا لوجود منظمات اجتماعية تتمثل فى الأسرة، والعشيرة، والشركات، والأحزاب وعناصر أخرى تجعل «ممارسات» الدولة فى الواقع أضعف مما هو متعارف عليه تقليديا فى العلوم السياسية. إذن باختصار منهج «الدولة فى المجتمع» لا يجعل مبدأى «السيطرة» و «التغير الاجتماعى» حكرا على «الدولة» ولكنه يفسح مجالا لتصور عناصر «المجتمع» المختلفة تتشارك فى هذين المبدأين. فى هذا السياق أرى فى مقال السيد عز وردود الفعل له علامة إيجابية «لقوة ما» فى المجتمع ذاته. ويبقى التساؤل الآن للحزب الوطنى: هل حقق هذا المقال أهدافه؟ إذا كانت الأهداف مشابهة لرسالة أوباما من «تذكير بالإنجازات لاستقطاب المؤيدين استعدادا لانتخابات رئاسية قادمة» فمن التعليقات المكتوبة لا يبدو أن أياً من هذه الأهداف قد حُقق على نطاقٍ واسع، أما إذا كان لملء فراغٍ ما، فيبدو أن للمصريين «بحياتهم اليومية المعاشة» ما يبرهن على عكس ما يقال فى مقال، أو خطاب، أو خبر أو تصريح. فما «الدولة» فاعلة بهذا التضاد بين «المقال» و «المُعاش»؟ زميل قسم دراسات الشرق الأوسط جامعة واشنطن، سياتل، الولاياتالمتحدة الأمريكية