أثار مقال الأحد الماضى، الذى حمل عنوان «اعتراف واعتذار»، ردود أفعال فاقت كل ما توقعت، أتيح لى أن أطالع بعضها مدوناً عبر «تفاعلى» «المصرى اليوم» على الشبكة العنكبوتية، أو عبر بريدى الإلكترونى، كما أتيح لى أن أستمع إلى بعضها الآخر عبر الهاتف، من خلال اتصالات بادر بها كثيرون، معظمهم لا تربطنى صلة مباشرة بهم. ولأن ردود الأفعال هذه عكست فى مجملها حجم الحيرة إزاء ما يتعين القيام به لإنقاذ وطن مختطف، فقد بدت لى بمثابة المرآة العاكسة، والتى تستحق أن نتوقف عندها وننظر فيها، لنتأمل صورتنا على حقيقتها وما وصل إليه حالنا من بؤس. لذا آمل أن أعلق على هذه الردود فى مقال الأحد المقبل، إن كانت فى العمر بقية. أكتفى اليوم بالقول إن عددا من القراء المهتمين تفهموا موقفى واعتبروا أن مساهمتى بالرأى عبر وسائل الإعلام المختلفة هى الأبقى والأنفع، أما الأغلبية الساحقة منهم فرفضته، واعتبرت توقيته سيئا، وطالبتنى بالعدول عنه و«الاعتذار عن الاعتذار». غير أن أكثر ما آلمنى هو اعتقاد البعض، خاصة من الشباب، بأننى تخليت عنهم وتركتهم «عرايا فى منتصف الطريق». وقد تأثرت جدا حين لم يتمكن أحد الشباب، فى مكالمة هاتفية معى، من السيطرة على مشاعره، وغلبته عاطفته وانخرط فى البكاء. أدرك أننا شعب تحركه العاطفة، أحيانا، بأكثر مما يحركه العقل، لكننى شديد القناعة بأنه عظيم ولماح وقادر على فرز الغث من السمين والتمييز بين المناضلين الحقيقيين والمتاجرين بالشعارات، ومن ثم يستحق التضحية من أجله، ومن هنا حرصى الشديد على إعادة التأكيد اليوم على مسألة كنت أعتقد أنها واضحة بما فيه الكفاية. فقد قلت فى مقالى المشار إليه، وبالنص: «انسحابى من الجمعية لا يعنى تزعزع إيمانى بضرورة التغيير، والذى لم يكن بالنسبة لى أمضى مما هو عليه الآن. كل ما فى الأمر أننى أرفض أن أصبح جزءاً من هياكل تنظيمية تشكل قيداً على استقلالية الفكر وتقتل الأفكار العظيمة بعد أن تحيلها إلى عملية روتينية عقيمة واجتماعات لا نهاية لها ولا طائل من ورائها». ورغم وضوح المعنى، إلا أنه يبدو أن عبارة: «سيكون القلم سلاحى الوحيد، وهو أمضى فيما أظن»، والتى لحقت بها مباشرة، أثارت لبساً. فقد تصور البعض أننى انسحبت هربا من ميدان «السياسة» ومعاركها المحتدمة على أرض الواقع وتوجهت إلى برج «الأكاديميا» العاجى، وهو فهم خاطئ تماما. فبوسع كل متابع لكتاباتى، وقبل ظهور الجمعية بزمن طويل، أن يدرك أننى لم أتعامل قط مع علم السياسة، وهو تخصصى الأكاديمى، باعتباره مهنة أتعيش منها، بقدر ما تعاملت معه كأداة معرفية للارتقاء الفردى والجماعى، ولم أتردد فى خوض أعتى المعارك الفكرية والسياسية. ورغم أن بوسع خلفيتى العلمية تمهيد الطريق أمامى لممارسة السياسة، فإننى كنت ومازلت أرفض ممارسة السياسة كمهنة، خصوصا فى ظل الأجواء السائدة فى مصر. لو كنت أبحث عن ممارسة السياسة كمهنة، لانخرطت فى أحد الأحزاب القائمة، وكانت الفرص أمامى ولاتزال متاحة، لكنى كنت ومازلت أعتقد أن ذلك يتناقض بشدة مع طبيعتى وتكوينى وحرصى على الاستقلال الفكرى. ومع ذلك لم يمنعنى عزوفى عن امتهان السياسة من خوض أعتى معاركها، غالبا بالقلم أو بإبداء الرأى فى وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، وأحيانا بالنزول إلى الميدان، ولكن مؤقتا ولمهام محددة أراها ضرورية ومفيدة، دفاعا عن قضية أو انتصارا لمبدأ. وعندما قبلت دور المنسق العام للحملة المصرية «ضد التوريث»، ثم للجمعية «الوطنية للتغيير»، لم يكن ذلك مدفوعا بطموح شخصى، طمعا فى منصب أو بحثا عن أضواء، ولكن إيمانا بضرورة التغيير. فلم تكن «حملة ضد التوريث» أو «جمعية التغيير» حزباً أو تنظيماً سعيت للانضمام إليه أو القيام بدور فيه، وإنما أداة للم شمل وتوحيد صفوف القوى المطالبة بالتغيير. أما الآن، وبعد أن تحولت الجمعية من أداة للم الشمل وتوحيد الصفوف والانفتاح على القوى التى لم تنضم إليها وحشدها معاً لمواجهة تحالف الفساد والاستبداد، إلى ساحة لتصفية الحسابات وإثارة الخلافات الداخلية بت مقتنعا كل الاقتناع بأن قضية التغيير أصبحت أكبر بكثير من قدرة الجمعية، بوضعها الراهن، على تحمل مسؤوليتها. قرارى يعنى الانسحاب من هيكل تنظيمى اسمه «الجمعية الوطنية للوطنية للتغيير» وليس من معركة التغيير، والتى تستحق أن أمنحها عمرى كله. وانسحابى من «الجمعية» لا يعنى أبدا انسحابا من «السياسة». ولولا اعتقادى التام بأن انسحابى، وفى هذا التوقيت بالذات، أفضل لقضية التغيير، وربما للجمعية أيضا، لما أقدمت عليه.