أتى من بلدته الصغيرة و وصل إلى البوابة الحديدية للمصنع الذي يعمل به في إحدى المدن الصناعية الجديدة ،. . . مد يده ليفتح مزلاج البوابة الحديدية من الداخل . رأى نفس الغلاية القديمة الكئيبة تطل بوجهها القبيح . . . و بشكلها الأسود القاتم ، وكأن كل هموم و أحزان البشر قد ترسبت على جدرانها . . . ، ثم نظر إلى النار تتأجج في داخلها وكأنها تحرق تلك الهموم و الأحزان لتنفثها بعد ذلك في الهواء من خلال مدخنتها الضخمة . كان عامل الغلاية يقف بجوارها يضبط عدة محابس أمامه ، قام بتحيته قائلاً : " صباح الخير" ، صاح العامل ملوحاً : "مرحباً يا باشمهندس . . . حمد الله على السلامة " . دخل المصنع و سار وسط مجموعات ضخمة من أثواب الأقمشة القطنية الخام و التي أرسلها العملاء إلى المصنع لكى تُصبغ بألوان مختلفة . كانت كلها متشابهة . . . و لكن كل مجموعة منها كان مصيرها إلى لون آخر . . . ، فهذه الأثواب سوف تُصبغ باللون الأحمر و تلك باللون الأصفر و هذه أبيض و تلك أسود . . . سأل نفسه . . . أهى مثلنا نحن البشر نُولد كلنا متشابهين ، أرواحنا و أجسادنا مثل هذه الأقمشة الخام ، ثم يتحول بعضنا إلى اللون الأسود و البعض إلى اللون الأبيض . . . و مساكين هؤلاء الذين يتحولون إلى اللون الرمادى ؟! و ضع شنطته الثقيلة و التى يحمل فيها ملابسه التى تكفيه أسبوعاً و بعض الكتب التى يقرأها كل ليلة في وحدته و يعتبرها متعته الوحيدة . صعد إلى حجرته الصغيرة التى يسكنها فوق سطح المصنع ، و إستبدل ملابسه بملابس قديمة خاصة بالعمل . . . و مع أنه بمثابة المدير الفنى لهذا المصنع الصغير إلا أنه لا يطيق الجلوس إلى مكتبه ، بل يستهويه دائماً أن يقف وسط العمال الذين يحبونه و يُشرف بنفسه على كل كبيرة و صغيرة . . . جلس إلى مكتبه المتواضع فى المصنع . . . أخذ يكتب أوامر التشغيل . . . و بدأ العمل ، و بدأت الماكينات الضخمة الثلاث تدور بصوت يشبه الأنين ، و لم يكن يعرف هل أنينها هذا بسبب ما آلت إليه قلوب الناس من أوجاع أم ما آلت إليه تلك الماكينات من قِدم ؟ إنشغل النهار كله و سط القماش و الماكينات و مشاكل الصباغة السخيفة . . . جلس بعد إنتهاء ساعات العمل فى مكتبه يتأمل أول يوم أتى فيه هذا المصنع ، كأنه كان بالأمس . . . كان العمل فى هذا المصنع هو أول عهده بالعمل بعد تخرجه من كلية العلوم قسم الكيمياء . . . دخل كمهندس مبتدىء . . . و تعلم على يد مدير المصنع وقتها الذى إحتضنه كإبنه و علمه كل شىء . . . و يوم ما ترك مدير المصنع العمل و ذهب للعمل فى مصنع آخر ، و لم يجد صاحب المصنع إلا صاحبنا الشاب ، فأخذ يبثه آمالاً ضخمة . . ." ستصبح أنت مدير المصنع و أنت فى هذه السن الصغيرة . . . و بدلاً من تلك الحجرة الكئيبة التى تسكنها فوق سطح المصنع ، ستكون لك شقة فاخرة تسكن فيها . . . " و صدق صاحبنا و أنبهر بالمنصب و إنخدع بالكلام . . . و ها قد مضت أربعة سنوات و هو لا يزال يجلس إلى ذلك المكتب الكئيب و ينام فى تلك الحجرة التى تشبه قلالى الرهبان فى الصحراء ، و لم يزد راتبه إلا بعض جنيهات قليلة . . . قطع عليه تفكيره ذلك العامل الصغير ببشرته الصعيدية السمراء و إبتسامته الدائمة ، دخل المكتب يسير على إحدى ساقيه و يجر ساقه الأخرى المعاقة جراً ، ثم قال " تحب أكنس لك المكتب يا باشمهندس ؟ " أجاب " مافيش مانع " . أخذ يراقب العامل الصغير و هو يكنس أرضية المكتب من التراب، كان التراب يتصاعد فى الهواء و يتشتت تماماً مثل آماله التى ضاعت بين هذه الجدران . إبتسم إبتسامة خفيفة و خرج إلى الغلاية وجدها تُطلق همومه و أحلامه فى الهواء مع دخانها . صعد إلى حجرته و بث همومه إلى الله فى صلاة قصيرة و إنتظر واثقاً عمل الله فى حياته . . . . . إبتسم إبتسامة خفيفة و تذكر أن الحياة أيضاً مختلفة الألوان و أن بدأت معه باللون الأسود فقد يأتى اللون الأبيض قريباً . . . وضع ثقته فى الله و ذهب لينام فى عمق على سريره القديم . { تمت }