فى 25 مايو الماضى، كانت انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى على الأبواب، وكان أمين لجنة السياسات بالحزب الوطنى يتحدث فى مؤتمر بالمنصورة، حيث قال بالحرف الواحد: «كان مرشحونا فى السابق يدخلون الانتخابات وكأن على رأسهم بطحة.. أما الآن فنحن فى موقع الهجوم وليس الدفاع». «نحن الآن فى موقع الهجوم وليس الدفاع».. ليست مجرد عبارة قالها قيادى فى الحزب الحاكم، أو تعبير مرحلى عن موقف يتبناه الحزب فى سياق محدد، لكنها استراتيجية تم تطويرها وتبنيها، ووُضعت لها سياسات وبرامج محددة لإنجازها. «نحن الآن فى موقع الهجوم وليس الدفاع».. استراتيجية أثمرت فوزاً ساحقاً للحزب فى انتخابات «الشورى» التى جرت فى الربيع الماضى، وانتخابات «الشعب» التى جرت فى هذا الخريف، لكنها أخذت البلاد إلى نفق طويل معتم، لم يظهر أى ضوء فى نهايته حتى الآن. يمكن القول إن انتخابات «الشورى» الأخيرة شهدت إحدى أعلى درجات العزوف عن المشاركة فى تاريخ العملية السياسية الوطنية، كما يمكن الحكم على انتخابات «الشعب» التى انتهت قبل أسبوعين، بأنها «الأكثر تزويراً» أو «الأكثر خضوعاً للبلطجة والعنف» فى تاريخ الانتخابات التنافسية المصرية. بات اليوم لدينا مجلسان نيابيان، أحدهما يتلقى الطعنات الجسام فى شرعيته، والآخر ليس بمقدوره البرهنة على قدرته على التعبير عن إرادة الجماهير، وفى الغالب، فإنك ستحتاج لعدسة مقربة إذا أردت أن تبحث فى أى منهما عن معارضة أو تنوع أو تعدد أو قيمة.. لقد تكرس فى نفوس المواطنين الانطباع بعدم جدوى العملية السياسية، وتعزز لديهم اليقين فى انسداد طرق الإصلاح السلمية وعبث التعويل على العمل الحزبى كوسيلة للتغيير والوصول إلى حلول للمشكلات المتفاقمة التى تعانيها البلاد. من أفضل ما تحلى به الحزب الحاكم، طيلة العقود التى هيمن فيها على مقدرات البلاد، شعوره بأن ثمة «بطحة» على رأسه، وقد كان هذا الشعور يجنبه الإغراق فى الاستعلاء، ويحميه من الزهو الفارغ، ويكسبه قدرة أكبر على التفاهم، وينزع الغل من قلوب بعض خصومه، ويسمح له بقبول مساحة من المعارضة أو الاختلاف، تُبقى المشهد أقرب إلى التجانس مع الواقع، وتُبقى للمناصرين المعتدلين، وللمعارضين الثانويين، وللحلفاء الخارجيين، كلاماً يمكن قوله فى معرض الدفاع عن بعض السياسات والأوضاع المقلقة. يخسر المحاربون معاركهم حين تفوق قوة خصومهم ما يمتلكونه من قدرة، فتنكسر إرادتهم ويخضعون، ويخسرون أيضاً حين يستخدمون قوة مفرطة غارقة فى التبجح والاستعلاء، وحين ينكلون بخصوم أضعف، أو لا يحترمون قواعد النزال. من تابع كيف أدار الحزب الحاكم المنتصر واقعة الانتخابات البرلمانية الأخيرة يعرف أن قاعدة «الهجوم خير وسيلة للدفاع» كانت الاستراتيجية الرئيسة المتبعة فى كل الأوقات.. تجسد الأمر فى أوضح صورة مع وسائل الإعلام، حيث تم استخدام معايير مهنية وقيم أخلاقية، متصلة بالممارسة الإعلامية، أسوأ استغلال ممكن لتحجيم التغطية وتعليبها، كما تمت الاستعانة بالوسائل والإجراءات التنظيمية التى تمتلكها أى حكومة إزاء النشاط الإعلامى لتلجيم هذا الأخير وتهديده وإخضاعه فى مواكبة العملية الانتخابية. لم يكن أكثر المتشائمين يعتقد أن الهجوم الاستعلائى من الحزب الحاكم والحكومة، والآلة الإعلامية التابعة لهما، سيتواصل بعد انتهاء العملية الانتخابية وظهور النتائج معبرة عن نصر كاسح يفوق ما قد يتحقق فى الأحلام، لكن ما حدث كان شن المزيد من الهجمات على خصوم بدوا مشلولين دهشة واستنكاراً وقلة حيلة إزاء الخرق الفاضح لقواعد اللعبة والعبث بأساسياتها. من يقرأ الصحف المناصرة، أو يستمع لتصريحات أعضاء الفريق الفائز، اليوم، سيصاب بدهشة حقيقية، فالتوجيه الاستراتيجى صدر ب «الهجوم المستمر عوضاً عن الدفاع»، ولذلك، فالهجمات تُشن بالقوة والشغف ذاتهما على «حكومة الظل» و«البرلمان الموازى» و«البرادعى الإخوانى» و«الإخوان الانقلابيين» و«الاتهامات بالتزوير» و«الانتقادات للبلطجة» و«المقاطعين والمنسحبين» و«منتقدى غياب المعارضة».. وحتى هؤلاء الذين يتوسلون بأحكام القضاء. لقد انتهت المعركة، وتحقق الفوز بعدد قياسى من الأهداف، وتم التنكيل بالخصوم، وغادر الحكام لاعنين، وانصرف الجمهور مقهوراً، لكن اللاعبين الفائزين ما زالوا يركضون فى الميدان، يسجلون المزيد من الأهداف فى المرمى المفتوح الخالى.. منتشين بنصر هو أدنى من أى هزيمة.