بقلم: محمد منصور "وإذا الصحف نشرت" ! لا أدري لماذا أتذكر هذه الآية الكريمة من سورة التكوير كلما طالعتني أخبار نشر تسريبات موقع ويكيليكس الأخيرة ومدى الضجة الكبيرة التي أحدثتها في العالم خاصةً في أوساط الإعلام والسياسة الدولية! ولكن يبدو أن للحدث دلالات أخرى تذكرني بمعاني وعبر في القرآن الكريم. ومعنى الآية معلوم كما ورد في كتب التفاسير، وهو نشر صحف أعمال الإنسان وأقواله عندما يبعث للحساب يوم القيامة والتي كانت تكتب في دنياه، فيأخذ كتابه بيمينه أو بشماله أو وراء ظهره، ويرى ما قدم من خير أو شر، فيفضح من يفضح ويستر من يستر - سترنا الله وإياكم من شر هذا اليوم الرهيب. إن الحديث عن حفظ أعمال الإنسان في صحف تكرر كثيراً في القرآن بصور مختلفة مثل تدوين الملكين لكل ما يلفظه الإنسان من قول، كقوله تعالى: "إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" [ق: 17, 18]، في تفسير إبن كثير يقول الحسن البصري: "يابن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيمة، فعند ذلك يقول: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) [الإسراء: 13، 14] ثم يقول: عدل - والله - فيك من جعلك حسيب نفسك." بعد تدبر هذه الآيات، هل يستطيع الإنسان أن يفكر مرة - بل ألف مرة - قبل أن يفعل شيئاً أو يقول كلمه وهو لا يدري مدى ضررها اليوم، وهي قد تلقيه في النار غداً والعياذ بالله؟ فلقد ورد في حديث بلال بن الحارث المزني أن الرسول (ص) قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه. قال: فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث." وصدق رسول الله (ص)، فكم من كلمة أدت إلى حروب بين الناس، وكم من كلمة أدت إلى قطيعة بين الأهل، وكم من كلمة أفزعت ونفرت الناس من الدين، وكم من كلمة أدت إلى قتلٍ ونهبٍ وظلم؟ فيا من تقولون الكلمات، إحذروا من عقابها وعاقبتها. عودة لموضوع نشر التسريبات، لا شك أنه لا وجه للمقارنة بين معلومات مخابراتية تسرب وتنشر من أجل ترويج إعلامي وجني للربح وفضح للناس وخاصةً الشخصيات الدبلوماسية والدولية وبين آيات ذكر ربانية مليئة بالعظة والرحمة والحكمة، تنبئ الإنسان بالغيب وتدعوه للإنتباه الشديد لما هو آت، ولكن قد تكون حادثة نشر تسريبات الوثائق تلك - بصرف النظر عن كل تفاصيلها - واعظاً جديداً لكل البشر في كل الدول، المتقدمة منها والمتأخرة أن كل شئٍ مكتوب وأنه في إنتظار ساعة النشر عندما يحين الوقت في الدنيا أو في الآخرة، فإن ستر الإنسان اليوم فمن يضمن أنه سوف يستر غداً أو يوم القيامة! لقد تغير الزمان، فمن كان يستطيع أن يكذب أو يغش أو يخدع في الماضي دون أن يفتضح أمره أصبح هذا الآن أمراً غير مضمون وخاصةً في زمان أصبح فيه تسرب المعلومات وإنتقالها وإنتشارها من طرفٍ في الأرض إلى أي طرفٍ آخرٍ فيها يتم في جزء من ثانية، حتى كل الضمانات التقنية الحديثة والمصممة خصيصاً لتأمين البيانات والمعلومات والأسرار الهامة أصبحت غير مضمونة بعدما رأينا تلك التسريبات الأخيرة وغيرها. كذلك قد يكتشف الباحثون والمؤرخون مثلاً أن أحد الشخصيات التاريخية من الماضي السحيق قد إرتكب جريمة ما ولكن ما يضيره هذا وقد خلا ومضى عن عالمنا، ولكن يختلف الحال كثيراً إن كانت تلك الشخصية التاريخية لا تزال على قيد الحياة ! إن عالمنا الأرضي تحول من عالم مليء بالأسرار إلى عالمٍ يكاد يخلو من الأسرار، فلابد أن ينتبه الناس أن كثيراً من خصوصياتهم ولو صغائر الأقوال والأفعال قد لا تكون أسراراً بعد اليوم، وخاصةً إن كانت لسفير أو وزير أو رئيس. مع كل هذه المتغيرات، هل يستطيع الإنسان أن يعيش وليس لديه ما يخفيه؟ .. نسأل الله السلامة .. http://masryyat.blogspot.com/