قضيت قبل أسبوع إجازة جميلة بديعة امتدت لأيام فى بلدى الغالى أسوان، حيث كنت فى إحدى المناسبات العائلية.. ذهبت إلى بلدتى ورأسى يمتلئ بما يعيشه الصحفيون والسياسيون فى القاهرة من ضجيج وقضايا «ندور» فيها و«تدور» فينا ليل نهار، عن التوريث ووراثة جمال مبارك الحكم عن والده ومستقبل مصر وجماعة الإخوان المسلمين والبرادعى.. إضافة إلى العديد من الأسئلة التى نبحث عن إجابات لها دوماً مثل: من الذى سيصعد إلى الحكم إذا لم يصعد جمال مبارك؟ وهل ستصل جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم؟.. هل ستقطع الأيادى وترجم الناس إذا ما اعتلت السلطة.. هل سيهرب الأقباط؟.. وماذا عن ظهور الدكتور البرادعى فى الحياة السياسية؟ هل سيترشح على مقعد الرئاسة؟. كيف ستتعامل الدولة معه؟.. هل ستنجح الضغوط الرقيقة والمحدودة لتغيير الدستور؟ أسئلة وقضايا وهموم وانشغالات نعيش فيها ولا يخلو أى لقاء عام أو خاص دون أن ندور فى هذه الحلقات.. المفرغة! ضجيج واسع وكبير، كنت أظنه يملأ الدنيا ويشغل الناس عندما ذهبت إلى أسوان.. ذلك البلد الذى يعيش فى جنوب مصر.. ويعانى مثلما تعانى مصر كلها من البطالة وقلة الزاد.. وقلة الحيلة. هذا الضجيج الذى يعيش فى رأسى فقط ورأس نفر قليل من الناس لا يتجاوز عددهم العشرة آلاف شخص على أكثر تقدير، ممن اصطلح على تسميتهم بالنخب السياسية والثقافية.. ظننت أنه يشغل أهالى بلدتى وأن هؤلاء بمجرد ملاقاتى سيبادروننى بوابل من الاستفسارات لمعرفة الإجابة عن هذه الأسئلة. .. هذا الوهم الذى ذهبتُ به إلى بلدتى لم أجده سوى فى رأسى فقط.. فلم أجد أياً من أهالى البلدة سواء كان مثقفيها أو أهلها العاديين.. يذكر مجرد ذكر هذه القضايا التى «نلوكها» نحن فى القاهرة «ليلاً» و«نهاراً».. إذا بى أجد اهتمامات وحاجات أخرى لهؤلاء الناس الذين يعيشون فى عالم ملىء بالسكينة والهدوء وراحة البال والضمير.. هؤلاء الناس الذين طواهم نسيان الدولة يعيشون فى درجة من النقاء والطهر، لا يعرفها مجتمع النخبة المنتفخ بالهواء الفاسد الملىء بالأوجاع والأمراض النفسية. وجدتهم لا يعرفون حاكماً لهم سوى أخلاقهم وضمائرهم المنبثقة من عقيدتهم، التى لم تلوثها روح التعصب والتطرف، سواء كانوا فى ذلك مسلمين أو مسيحيين.. لا تجد أحداً منهم يجور على حق أحد أو يظلم أحداً إلا ما ندر.. لا يعرفون سوى مبارك رئيساً. لا يعرفون البرادعى كما لا يعرفون جمال مبارك.. لا يعرفون الإخوان المسلمين كما لا يعرفون الحزب الوطنى.. لا يعرفون شيئاً ضد وحدتهم الوطنية لأنها معنى مقدس لديهم مثل القرآن والإنجيل.. بل لا يعرفون المزايدات الرخيصة على هذه الوحدة «المقدسة» مثل الأحضان المزيفة بين الشيوخ والقساوسة! .. ورغم ضيق الأرزاق الذى يعتريهم ويكسرهم فى بعض الأحيان فإنهم لا يسألون الحكومة إلحافاً سوى أن تقوم بواجبها تجاههم، وهو إيجاد أسباب للرزق والعيش، التى نقول نحن عنها إنها أمن قومى.. كما أنهم لا يسألون سوى عن مخرج لبلادهم من ويلات الفقر والإهمال على طول الزمن. ولذا قال قائل من «المتحذلقين» إن هؤلاء يعيشون فى غياهب الجهل والأمية السياسية وعدم الاهتمام بالشأن العام فإنهم فى المقابل لا يعرفون شيئاً عن الأصنام التى صنعناها ونصنعها نحن أهل النخبة فى العاصمة، ويتقرب بعضنا إليها «زلفى» ويعبدها البعض الآخر.. .. يعترفون بأنهم «جهلة ومغيبون وأميون».. لكن ليسوا «فاسدين ومضللين»!