يبدأ التاريخ المعاصر لأى بلد مع تاريخ آخر حدث لايزال يؤثر فى الواقع، بغض النظر عن اختلاف الآراء حول تقييمه، والتاريخ المعاصر لمصر بهذا المفهوم يبدأ مع ثورة الجيش فى يوليو 1952 وإعلان الجمهورية وحل الأحزاب عام 1953، وأعظم أيام ذلك التاريخ السادس من أكتوبر 1973 فى مثل هذا اليوم من 37 سنة. كلما مر الوقت صدر المزيد من الدراسات عن أى حدث على ضوء الكشف عن مزيد من الوثائق والحقائق، وكلما مر الوقت أعيد النظر فى تقييم الحدث على ضوء ما يحدث فى الواقع، وما صدر عن حرب أكتوبر، وما حدث فى الواقع بعدها فيما يتعلق بالصراع العربى الصهيونى، يؤكد أن ذلك اليوم أعظم أيام تاريخنا المعاصر. لم تكن حرب أكتوبر حرباً أخرى مع إسرائيل، ولا كان الانتصار فيها يوماً سعيداً آخر فى تاريخ المصريين والعرب الطويل، فبقدر ما كانت هزيمة الخامس من يونيو 1967 تعنى أن مصر والعرب أصبحوا خارج التاريخ، بقدر ما كان انتصار أكتوبر يعنى العودة إلى المساهمة فى صناعته. انتصرت إسرائيل فى 1967 بإتقان العلم والدقة فى العمل، وانتصر العرب بقيادة مصر فى 1973 لأنهم أدركوا ذلك، وهُزمت إسرائيل لأنها لم تتصور أن من يخرج من التاريخ يمكن أن يعود إليه بعد ست سنوات فقط. كانت نقطة ضعفها عدم تقدير ماذا يمكن أن يفعل الإنسان عندما يشعر بالإهانة. وقد قال الفيلسوف الألمانى هيجل يوماً إن خجل الإنسان من الآخرين محرك رئيسى للتقدم فى التاريخ. تعلمت إسرائيل الدرس. وظلت حرب أكتوبر «آخر الحروب» كما قال قائدها الرئيس الراحل السادات، الذى أدرك بمعرفته لحقائق التاريخ ودهاليز السياسة أن كل حرب تنتهى بالتفاوض، وأن أفضل أوقات التفاوض عندما تنتصر على الأرض، أو على الأقل عندما تصبح القوة متكافئة بين الطرفين المتفاوضين. ومن يقل إن الرئيس الراحل عبدالناصر قَبِل التفاوض قبل وفاته عام 1970، بقبول مبادرة روجرز، أُحِلْهُ إلى مواقف عديدة فى التاريخ، ومنها المعاهدة التى وقّعها ستالين مع هتلر عام 1938، فقد كان ستالين يدرك أن الحرب واقعة لا محالة، ولكنه كان فى حاجة إلى وقت لبناء جيشه، ولنفس السبب قبل عبدالناصر مبادرة روجرز، وتحمل مزايدات السفهاء، أو بالأحرى لم يتحملها وتوفى فى نفس العام: كان عبدالناصر يعيد بناء الجيش الذى سيقوده رفيق عمره المخلص السادات وينتصر. ومن يسأل إذا كانت أكتوبر آخر الحروب، فما هى هذه الحروب التى وقعت بين العرب وإسرائيل بعدها فى لبنان وغزة من 1982 إلى 2008، أدْعُه لعدم الخلط بين الحرب والعدوان، فالحرب تكون بين جيشين، وما قامت به إسرائيل فى لبنان وغزة سلسلة من الاعتداءات أو «بلطجة» يعتدى فيها طرف على طرف آخر يصد العدوان. وقامت إسرائيل بهذه «البلطجة» لأسباب متعددة، أهمها استغلال انقسام العرب حول سياسة مصر بعد حرب أكتوبر، وفى عام 2002 اتفق العرب على مبادرة السلام العربية بعد 25 سنة من رفض مبادرة السلام المصرية عام 1977. وبعد ثمانى سنوات أصبحت الدولة الفلسطينية قاب قوسين أو أدنى. وإن وجود دولة باسم فلسطين على أى مساحة من أرض فلسطين يضرب الأيديولوجية الصهيونية فى عمقها، ويقتلعها من جذورها، ويدرك اليمين الدينى المتطرف الحاكم فى إسرائيل ذلك، ولهذا فإن المفاوضات مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس شاقة وعسيرة، ولكن الدولة الفلسطينية بعد إقرار أمريكا بضرورة وجودها عام 2004 لم تعد موضوع المفاوضات، وإنما كيف توجد ومتى، وعلى العرب مساندة المفاوض الفلسطينى ليحصدوا ثمرة مائة عام من الكفاح ضد الصهيونية، و60 عاماً من الكفاح ضد إسرائيل، وذروته الانتصار فى حرب أكتوبر. أما الذين يتحدثون اليوم عن دور إيرانى وآخر تركى، ويقللون من دور مصر والعرب ومن دور حرب أكتوبر، وسوف تتضح يوماً الأسباب المخزية وراء هذا الحديث، فهم يساهمون فى محاولة سرقة ثمرة كفاح مصر والعرب، وتجرى هذه المحاولة عن طريق المال والميليشيات المسلحة، ومآلها الفشل لأن المال لا يصنع الأدوار، والميليشيات لا تصنع التاريخ، وتأتى هذه المحاولة من دولتين كان اعترافهما بإسرائيل، وهى وليدة عام 1948، أكبر دعم لها لأنهما من دول المنطقة، كما كان تعبيراً عن توجه كلتا الدولتين بعيداً عن مصر والعرب، وهو ما جمع بينهما رغم اختلافهما الكبير. وإذا كانت العلاقات بين إسرائيل وإيران قد انفصمت بعد قيام نظام الجمهورية الإسلامية عام 1979، إلا أن هذا النظام يستخدم قضية فلسطين ولا يخدمها. أما العلاقات بين تركيا وإسرائيل فكانت ولاتزال أقوى من أى علاقة بين إسرائيل وأى دولة أخرى فى المنطقة، ولا غرابة فى ذلك وتركيا عضو فى الحلف الأطلنطى الذى تقوده أمريكا، وهو حلف عسكرى، ولذلك يقوم جيش تركيا بمناورات مشتركة مع جيش إسرائيل. ومن ناحية أخرى، تسعى تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، أى الانسلاخ الكامل عن المنطقة، وهذا يعنى التوجه إلى أن تكون علاقتها مع العالم العربى مثل علاقة فرنسا، فهى تعيش فى أوهام استعادة الماضى الاستعمارى للعالم العربى تحت مسمى «العثمانية الجديدة»، كما تعيش فرنسا نفس الأوهام تحت مسمى «الاتحاد من أجل المتوسط». مصر وتركيا وإيران هى الدول الكبرى الثلاث فى هذه المنطقة من العالم التى تعرف باسم «الشرق الأوسط»، وكل منها تمثل قومية مختلفة، ومصر هى قلب القومية العربية بحكم التاريخ والجغرافيا، شاء مَنْ شاء وأبى مَنْ أبى من العرب أو من المصريين، وإن كان هذا لا يحول بالطبع دون إقامة علاقات وطيدة بين العالم العربى وتركيا وإيران فى ظروف معينة بحكم الجوار، وبحكم أن الإسلام هو دين أغلبية العرب والأتراك والإيرانيين. قال لى يوما مثقف خليجى «كفاية مصر»، فقلت له: فى هذه الحالة مبروك عليكم إيران التى تسودها نظرة عنصرية غير خافية تجاه العرب، خاصة فى الخليج. وقلت له: عليكم أن تقولوا كفاية لكل من يسعى للاستيلاء على ثرواتكم، وألا تنسوا أن مصر هى القوة الأساسية فى العالم العربى التى تستطيع مواجهة أطماع إيران، خاصة فى الخليج، وأطماع تركيا، خاصة فى المشرق العربى، وأن هذا هو درس التاريخ لمن يعرفه. فى هذا اليوم الأعظم فى تاريخنا المعاصر، علينا أن نفرح ونفخر، وعلينا أن نتذكر الشهداء، وعلينا أن نتذكر أنهم عبروا القناة بإتقان العلم والدقة فى العمل، ليس من أجل تحرير سيناء فقط، وإنما من أجل تحرير مصر والأمة العربية كلها، وليس من أجل تحرير الأرض التى احتلتها إسرائيل فقط، فماذا تكون إسرائيل هذه، وإنما من أجل أن يكون إتقانهم العلم ودقتهم فى العمل نبراساً للجميع لتحرير الوطن من كل مشاكله، ولوضعه على طريق التقدم والديمقراطية والحرية.