بمجرد أن تطأ قدماك حواريها وأزقتها تشعرك بأنها، وإن تغيرت، لاتزال تحتفظ بشىء من تراثها الذى ميزها عن بقية أحياء المدينة، تصدعات جدران مبانيها و«مشربياتها» المتآكلة بفعل الزمن ويد التحديث البشرية، تحدثك بأنك فى مكان كان ذات يوم من «أعرق» الأماكن، وأرقاها، وأغناها على الإطلاق. حى كوم الدكة فى «قلب» الإسكندرية، الذى يعتقد الكثير من الأثريين أنه يضم أكبر كشف أثرى لم يتم اكتشافه بعد، «فقير» فى مظهره غنى فيما قد يحتويه من كنوز العصور «المندثرة» التى مرت على المدينة، ضيق ذات اليد هو السمة الوحيدة التى تجمع بين سكانه، وهم يعرفون بعضهم البعض كعائلة واحدة مترابطة مثل سلسلة متماسكة الحلقات. «التهميش» و«الإهمال» وعدم الاكتراث بكل ما هو جميل هى ما حولت حى «كوم الدكة» لمنطقة تقترب من «العشوائية»، فبجوار أحد البيوت أو المساجد الأثرية التى لا يتجاوز ارتفاعها عدة أمتار، تجد عملاقاً مشوهاً مكوناً من طوابق عدة متراصة فوق بعضها البعض، ويفتقر لروح المعمار، ينظر لجاره بتعالٍ شديد، ولسان حاله يقول «سآخذ مكانك ذات يوم». «سويسرا» هكذا أطلق عليها عم «جابر»، أحد أقدم سكان حى كوم الدكة، ويبلغ من العمر 80 عاماً، وقال: زمان لما كنّا صغار اتعودنا نقول عليها «سويسرا» من كتر جمالها، وعشان مكتفية بنفسها ولا تدخلها السيارات، كانت مبانيها روعة فى البناء، وكنا نلاحظ اختلافاً فى البناء بينها وبين باقى المبانى فى الإسكندرية، رغم أنها مشهورة بمبانى اليونان الجميلة، إلا أنها كان لها طابع خاص». وعن أصل تسمية كوم الدكة قال «جابر» ل«إسكندرية اليوم»: لما الرومان دخلوا البلد علشان يحتلوها، استغاث أهلها؟ ب«عمرو بن العاص»، فحضر إلى المدينة، ويقال إنه أتى فى جيش كبير و(دكّ) الرومان فى المنطقة دى علشان كده سموها كوم الدكة، ولما كنا صغيرين كنّا نحفر نلاقى جماجم، ولحد دلوقتى عندنا سراديب تحت الأرض توصل من هنا إلى حديقة الشلالات، ومخابئ موجودة من أيام الحرب العالمية، بس مغطاة بحديد». وتابع: « كانت طابية الإنجليز أيام الحرب العالمية موجودة هنا فى كوم الدكة من ناحية النبى دانيال، وعندما تم هدمها، وحفروا تحتها اكتشفوا المسرح اليونانى الرومانى اللى بييجى المغنيين فيه». وبنبرة اعتزاز، قال سمير عبدالعزيز، أحد سكان المنطقة: الفنان سيد درويش جدنا، ورغم كده ممكن تطلقوا علينا «الكومبارس بتاع الحكومة»، لأننا مهمشون، والمكان كله أصابه الإهمال وبقى موجود فيه كل شىء، هنا فيه بيوت كتيرة ومساجد أثرية، لكن الناس غلابة معهاش فلوس لترميمها على حسابها وتحافظ على روح المكان، فبيستنوا أى مقاول يشترى منهم البيت ويهده ويطلع مكانه عمارة من 10 أدوار، رغم إن أعرض شارع لا يتجاوز ثلاثة أمتار، ولو البيت صغير أو فى حارة ضيقة جداً بيسيبوه لغاية ما يقع». وقال عبده صالح، 47 عاماً، أحد سكان الحى العريق: هى دى آخرة الإهمال، حتى لما حاولوا يرصفوا، مارصفوش بزفت زى كل الشوارع، وصبوا مكانه خرسانة أسمنتية سميكة، ومحاولوش إنهم يصلحوا مواسير المياه والصرف وغطوها بالصبة اللى عملوها، ولما بيبقى فيه كسر فى ماسورة ولا أى عطل بيفضل زى ما هو لأن صعب جداً حفر الصبة والوصول لمكان العطل». « أنا ساكن هنا من زمن مش فاكره»، متهكماً على حاله والصورة التى وصل إليها حى كوم الدكة، أشار محمد السيد لأحد العقارات شبه المنهارة قائلاً: بيتى وقع من مدة كبيرة، وعايش دلوقتى فى غرفة صغيرة، والمحافظة مش سائلة فينا خالص، ولا فيه حد بييجى عشان يشوف البيوت دى ويرممها لأن حالة السكان صعبة ومايقدروش على المصاريف الباهظة، والحاجة الوحيدة اللى بتفكر الناس إننا لسه موجودين والمكان متهدش فوق دماغنا، هى حفلة سيد درويش اللى بتتعمل كل سنة، وبكده ناس كتيرة أوى بتزورنا كل سنة مرة». «أكتر شىء يميز منطقة كوم الدكة أنها مليئة بالمهن اليدوية، خاصة النجارين والنقاشين»، هكذا بدأ محمد على، نجار، من سكان المنطقة، حديثه ل«إسكندرية اليوم»، وأضاف: مواسير الصرف الصحى عمرها أكتر من 70 سنة، ورغم أن المنطقة تعتبر فى قلب الإسكندرية إلا أن الاهتمام بها ضعيف جداً». وأكد «على» أن أثرية المكان والروح التى تميزه تدفعان العديد من طلبة كليات الفنون الجميلة من الإسكندرية والقاهرة إلى المجىء لحى كوم الدكة لرسم المشربيات القديمة، والبيوت والأبواب، التى اندثر معظمها ولم يتبق منها سوى النزر البسيط. «سمعنا كتير عن الآثار اللى ممكن تكون موجودة تحت البيوت، وساعات لما البيوت بتقع بنلاقى سراديب، وفيه ناس بتبلغ وناس بتخاف وبتبنى على اللى لقيته عشان الأرض متروحش منها، والكارثة إن فئة جديدة بدأت فى الالتفات للمنطقة، وهم مجموعة من المقاولين بيشوهوا تاريخ المكان بالعمارات العالية اللى بيبنوها وبيبيعوها بأسعار عالية باعتبارها منطقة فى وسط البلد، وتحيط بها محطة مصر ومحطة الرمل والسكة الحديد والاستاد والحى اليونانى». «لوحة فنية ومكان أثرى يستحق الاهتمام».. بهذه الكلمات وصف «عم سيد» منطقة كوم الدكة، قائلا: هى فعلا لوحة فنية، ولكنها أوشكت على الاندثار، فمبانيها ومشربياتها ومقاهيها تتميز بطابعها الخاص، كل ده ويا ريت فى اهتمام بها»، يرى «سيد» أن هناك كثيراً من المناطق فى الإسكندرية تلقى اهتماماً أكبر من كوم الدكة، وهناك إهمال فى المرافق المقدمة لسكانها فأبسط الأشياء وهو رصف الشوارع هو غير موجود، فمكانه صبة أسمنتية، تؤثر على الصرف الصحى فى المنطقة». وتحدثت سعاد موسى إحدى السكان عن المنظر الجمالى الذى فقدته «كوم الدكة»، فقالت: «ترى أحد البيوت القديمة ذات الزخارف الخاصة والمشربية بجواره ما يسمى (القهوة)، ثم بعده برج سكنى عالٍ يشوه معالم وجمال المنطقة»، وتابعت: «إحنا هنا فى المنطقة كلنا نعرف بعض، إذا دخل أى غريب إلى المنطقة نعرفه، العلاقة بين الأهالى جيدة جدا، لكننا نحزن عندما نجد معالم المكان قد تلاشت، فتصبح مثل باقى المناطق الأخرى التى لا يعرف الناس فيها بعضهم، نفسنا نرجع زى زمان ونرجع أيام الزمن الجميل». عبدالسلام محمد، أحد السكان، قال: لا نريد اهتماماً خاصاً لكن نتمنى أن يهتموا بنا زى ما بيهتموا بباقى المناطق، يهتموا بالتراث الموجود هنا، محدش بيسمع عن الناس فى كوم الدكة إلا فى المواسم والحفلات، وتلاقى شوية فنانين، ومسؤولين، وبعدين بينسونا، ومحدش بيسأل عننا ولا عما يحتاجه سكان المنطقة، والحفاظ على المعمار بها». وعن عدد سكان كوم الدكة وأزقتها، قال على حسين: «عدد السكان تقريباً لا يزيد على 30 ألف، وبها العديد من الحوارى والأزقة، أشهرها حوارى قشطم والكراكون، والأعور، وجزر، و«الألاتى» التى يوجد بها المنزل الذى ولد فيه الفنان سيد درويش، وغيرها. وقال اللواء عادل مهران، رئيس حى وسط، أن الحى يلتزم عند منح تراخيص البناء فى أى مكان فى نطاقه ب«مجلد الحفاظ» الذى نص عليه بروتوكول عام 2006 للحفاظ على الأماكن الأثرية والتاريخية والأماكن التى عاشت بها شخصيات مرموقة. وأكد أن أى عقار خال من السكان يعامل معاملة عادية كبقية العقارات طالما لم يحظر التعامل معه من قبل المجلس الأعلى للآثار أو وزارة الثقافة أو غيرهما من الجهات المعنية بالحفاظ على التراث المعمارى، ضارباً المثل بشارع النبى دانيال الذى توقفت تراخيص البناء فيه، بناء على توصيات المجلس الأعلى للآثار. وحول ضيق الحوارى الموجودة فى منطقة كوم الدكة وتناقضها مع العقارات الجديدة متعددة الأدوار، قال «مهران»: كل عقار يحدد له عدد أدوار معين حسب عرض الشارع، وبالنسبة للحوارى التى لا يتعدى عرضها ثلاثة أمتار مثلا، فمن المفترض ألا يزيد عدد أدوار عقاراتها على دور أرضى ودورين علويين، ومن يخالف ذلك يعرض نفسه للمساءلة القانونية، بخلاف تعرض الأدوار المخالفة للإزالة من قبل الحى». ولفت «مهران» إلى أن البناء فى المناطق الأثرية له قواعد معينة، مشيراً إلى أن حى كوم الدكة من الأحياء الآثرية التى لابد أن يوافق المجلس الأعلى للآثار على البناء فيها بعد الكشف على الموقع باستخدام المجسات للتأكد من خلوه من الآثار، وصلاحية البناء عليه، ونفى أن تكون هناك أى خطة للحفاظ على شكل منطقة كوم الدكة الأثرية طالما لا يوجد حظر فى التعامل مع مبانيها. وعن «الصبة الخرسانية» الموجودة فى شوارع كوم الدكة، بدلاً من الأسفلت المتعارف عليه، قال «مهران»: هذه الطبقة أكثر أمناً من الأسفلت العادى، وتظهر الأعطال الموجودة بباطن الأرض أسرع من الأسفلت الذى من الممكن أن يستغرق فترة كبيرة، حتى يبدأ فى إعطاء مؤشر بوجود عطل ما»، مؤكداً أنها أحدث شىء توصلت إليه مديرية الطرق بالمحافظة. وتابع: فى البداية عارضت هذه الصبة الخرسانية، وأيدت الأهالى فى موقفهم المعارض لها، وقمت بالاتصال بالمسؤولين فى المديرية، فأكدوا لى من خلال الدراسات صلاحية هذه الصبة وقوتها، والشىء الذى لا يعرفه الأهالى، أن تكلفتها أعلى من تكلفة الأسفلت العادى. من جانبه قال الدكتور محمد عبدالمقصود، رئيس الإدارة المركزية لآثار الوجه البحرى وسيناء، إن منطقة كوم الدكة من أكبر المناطق الأثرية فى محافظة الإسكندرية حيث توجد بها الآثار على مساحة 14 فداناً، مقارنة ب«عمود السوارى» الذى يقع على مساحة 3 أفدنة، معتبرا أنها من أعلى المناطق الأثرية ارتفاعا حيث تقع على ارتفاع 25 متراً فوق سطح البحر. وأضاف: المجلس الأعلى للآثار هو المسؤول عن أى حفريات أو أعمال تنقيب تحدث فى إطار منطقة كوم الدكة، وأن أى مبان أو عقارات تبنى فى نطاق الحى، لابد أن يصدر لها ترخيص من المجلس الأعلى للآثار»، وأكد أنه لا توجد أى مبان مخالفة فى كوم الدكة. وتابع أن كوم الدكة، بمساحتها الكبيرة، تخضع لإشراف «الآثار»، ما دفع المجلس الأعلى لإرسال 5 بعثات للتنقيب عن الحفريات والآثار فى المنطقة، ومن المتوقع أن يتم اكتشاف حفريات جديدة فى هذا العام، وفق قوله، حيث تعتبر المنطقة غنية بالآثار، وأكد أن هذه البعثات ستستمر فى التنقيب حتى مايو من العام المقبل 2011. وأضاف: طبقاً لقانون حماية الآثار الذى ينص على عدم إمكانية البناء على أى مكان أثرى، أو من المتوقع أن يكون تحته آثار، لا يمكن لأى شخص البناء فى منطقة كوم الدكة أو إزالة أى عقارات أو مبان قديمة إلا بعد الحصول على تقرير من المجلس الأعلى للآثار. وعن الطبيعة الأثرية للمنطقة قال: إن كوم الدكة منطقة يحدها الحى الملكى، من أحد الجوانب، وأن تسميتها جاءت بسبب استخدام نابليون بونابرت لها، أثناء إحدى الحروب، ك«دكة» لدك باقى الحصون بها.