هذا فيلم ملىء بالانفعالات الداخلية لشخصياته وهو يتحرى تلك الطبقات من الانفعال منذ المشاهد الأولى التى تأتى قبل التيتر، وهى نقطة الهجوم الحقيقية فى الفيلم وليس أيا من تلك الأحداث التى ترد لاحقا والتى تصور لنا حياة زوجين أمريكيين فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، وكيف أن أسرتهم التى تبدو أمام المجتمع الصغير الذى يعيشان فيه (مجتمع شارع الثورة) أسرة مميزة كما يطلق عليها الجميع لأن تلك الأسرة مكونة من أب وأم فى شرخ الشباب لديهما أطفال أصحاء وأسوياء وتملك كل مقومات الصورة الاجتماعية البراقة، فالأب يعمل فى شركة بالمدينة براتب مجزٍ والأم سيدة منزل متعلمة تربطها علاقة جيدة بكل جيرانها. إنها الشكل التقليدى للأسرة السعيدة الموجودة فى العالم كله وليس فقط فى أمريكا، ولكن داخل هذه الأسرة وداخل الزوجين الشابين هناك صراع رهيب بين قيمة الحياة التى يعيشانها ومعناها، فالصراع فى هذا الفيلم صراع داخلى نفسى بالدرجة الأولى أو هو صراع بين عنصرى القيمة والمعنى فى الحياة فالزوجة الشابة «ايبريل» والتى فشلت فى أن تصبح ممثلة تشعر أن حياتها بلا قيمة لأنها لا تستطيع أن تحقق طموحها داخل شرنقة عالمها الصغير المكون من زوجها وأبنائها. والزوج الشاب «فرانك»، الذى انتهى به الحال كأبيه، يعمل فى نفس الوظيفة التى لا يحبها لمجرد أن يعول بيته ويثبت لنفسه ولزوجته أنه رجل يستطيع أن يتحمل المسؤوليات، هو أيضا يشعر أنه يمر بالحياة دون أن يحقق قيمة معينة بل ويفتقد معنى لهذه الحياة. وفى لحظة ما تقرر الزوجة أنهما يجب أن يثورا على هذه الحياة الرتيبة المملة التى لا تطمح إلى شىء سوى الاستمرار، ومن هنا يبدأ الصراع يتفاقم بداخلهما وفيما بينهما حيث تشبه ظروف الحياة من حولهما القدر فى الدراما اليونانية والذى يسخر من البشر طوال الوقت عن طريق منحهم أكثر من اختيار فى اللحظة التى يعتقدون فيها أنهم توصلوا إلى قرار جيد لتغيير حياتهم والعيش بسعادة. وفى الوقت الذى يتفق فيه الزوجان على الهجرة لباريس حيث تعمل «ايبريل» وتحقق ذاتها وقيمتها فى الحياة ويعيش «فرانك» بحثا عن ذاته وأحلامه والعمل الذى يحب أن يقوم به. تُعرض عليه ترقية مهمة تكفل له دخلا مربحا وقيمة مختلفة للعمل الذى يقوم به . وتَحمل «إيبريل»، ويصبح عليها مواجهة قرار إما أن تجهض الجنين لأنه سيعوق سفرها أو أن تحتفظ به وتظل قانعة بوجودها داخل لوحة الحياة دون أن تعيشها بشكل حقيقى وسعيد. وعبر مشاهد طويلة من الشجار والسجالات الكلامية التى تحدث بين كل الأزواج وفى كل البيوت، السعيد منها والتعيس، يقوم السيناريو بعملية تشريح نفسية اجتماعية عبر دراما تراكمية تترك بداخل المتفرج عشرات الأسئلة التى تطرحها شخصيات الفيلم بالنيابة عنه، وتواجهه بما يمكن أن يكون قد دار كثيرا فى خلده دون أن تكون لديه الشجاعة للإجابة عليه أو مواجهته، وتترك المتلقين ليجيبوا عليها كلا على حسب رؤيته ووجهة نظره فى الحياة. وقد جاءت تلك السجالات الكلامية كمباراة فى الأداء والانفعال بين «دى كابريو» و«وينسليت» وتجلت فيها براعة المخرج «سام منديز» فى شحن ممثليه بطاقة الشخصيات التى يؤدونها وفى رأيى أن صاحب فيلم «الجمال الأمريكى» أدرك أن جوهر هذا الفيلم هو التركيز بكل العناصر على الدراما الداخلية، فجاءت حركة الكاميرا قليلة فى معظم المشاهد، وصار الحكى البصرى يتم طوال الوقت من خلال أحجام اللقطات التى تقترب وتبتعد من الشخصيات أو تجمعهم فى لقطة واحدة أو تفصلهم فى لقطات قريبة ليبدو كل منهما فيها جزيرة منعزلة أو فرد يعيش مشاكل خاصة سببها الوضع العام. حتى فى مشاهد الفلاش باك، لم يلجأ «منديز» إلى أى نوع من أساليب المونتاج كالمزج أو الإظلام وإنما هو القطع التلقائى بين مشاهد الحاضر والفلاش باك تماما، كما تدهمنا ذكرى فى لحظة شرود عابرة نراها رأى العين ونقارن بينها وبين اللحظة الآنية التى نعيشها مثل مشاهد الفلاش باك التى تتذكر فيها «إيبريل» كيف عثروا على ذلك المنزل الجميل وكيف كانت الحياة فى بدايتها قبل أن يغزوها فقدان الروح المتمثلة فى فقدان قيمة تلك الحياة ومعناها الحقيقى. ولولا قدرة «منديز» على ضبط إيقاع اللقطات وطولها الزمنى وأحجامها لأصاب المتفرج ضجر شديد نتيجة اعتماد السيناريو كليا وجزئيا على الحوار المستمر بين الشخصيات. وقد قدم الممثل «مايكل شانون» الذى رشح للأوسكار عن هذا الفيلم كأحسن ممثل مساعد شخصية شديدة القوة فى هذه الدراما الاجتماعية فهو شخص مضطرب عقليا خرج لتوه من المصحة وتحاول أمه أن تجعله يندمج مرة أخرى فى المجتمع وبالتالى تدعوه للتعرف على أميز أسرة فى شارع الثورة «آل ويلر» ليكتشف، ونكتشف معه، أنهم ليسوا مميزين كما صورتهم الخارجية وأن كل من يحاول أن يواجه الكيانات الاجتماعية الراسخة بأخطائها ومشاكلها يعتبره المجتمع مجنونا ومختلا وغير قادر على التعامل مع البشر من حوله، وهو جزء من قوة السيناريو الذى تتخذ فيه الشخصيات والأسماء أكثر من طبقة رمزية، فشارع الثورة الذى يسكنون فيه هو فى مستواه الرمزى شارع الثورة على الجمود وغياب الروح، والذى يظن الناس به الجنون هو منبع الحكمة لأنه يتحدث بشجاعة دون خوف من تقلصات اجتماعية أو انتقاد شكلى، وهذا النوع من العمق الفنى هو ما يجعل الفيلم يستحق مشاهدة صبورة ومتأنية وربما متكررة. ريفيو الاسم الأصلى: Revolutionary Road الاسم التجارى: الطريق الوعر سيناريو: جاستين هايثى عن رواية لريتشارد ياتيس إخراج: سام منديز بطولة: كيت وينسلت - ليوناردو دى كابريو. مدة الفيلم: 119 دقيقة