منذ أكثر من عام، وتحديدا فى 7/1/2008، كتبت ل«المصرى اليوم» مقالاً مطولاً بعنوان: «هل من تطبيع مع المصريين»؟!، عتبت فيه على الحكومة المصرية أنها إذ قبلت وتطبع العلاقات مع العدو الإسرائيلى، فإن علاقتها بشعبها المصرى خارجة عن حدود التطبيع، حُبْلى بالاحتقانات فى الحريات، والصحافة، وفى الملاحقات. وفى المحاكمات العسكرية للمدنيين، وفى الاعتقالات، وفى الضيق بالرأى الآخر إلى حد تشويه وتعقب صاحبه بالسخرية والتجريح والنكير، وبتنا الآن لا يمضى شهر إلاّ وتختلق الحكومة ما يقض مضاجع الشعب ويثير الاحتقانات والاعتصامات والإضرابات والمظاهرات! ظنّى أن عائد مشروع قانون تعديل بعض أحكام قوانين الرسوم القضائية فى المواد المدنية والجنائية وأمام مجلس الدولة، هو «حصرم» لا يقدم إلاّ مرارةً وأشواكاً، وقد تسبب ولايزال يسبب التهابات واحتقانات متصاعدة أضافت إلى ما نحن فيه هموماً جديدة، مردها إلى أن المشروع يبدو وكأنه منفصل انفصالاً تاماً عن الفقر المدقع الذى يعانيه الشعب، وأنه فيما استنه من مضاعفة الرسوم إلى نحو عشرة أضعاف، يصادر مصادرة حقيقية على الفقراء فى استعمالهم حق رفع الدعوى، وهو حق دستورى لا تجوز المصادرة عليه! الغريب اللافت هو المواقف المتناقضة للحكومة، فهى إذ تخفف الرسوم الجمركية على المستوردين والمستثمرين، ومعظمهم من أصحاب القدرات والثراء، وتمنحهم تخفيضات هائلة فى أسعار النفط والطاقة، بل تمنح لإسرائيل وبأسعار زهيدة متدنية «الغاز المصرى» الذى نحن أحوج ما نكون إليه، ولا تبذل ما عليها للسيطرة على جموح الأسعار وسط أزمة اقتصادية متفجرة، فإنها فى الوقت نفسه تستدير على الفقراء والغلابة والمطحونين، والذين لا يجدون ما يقتاتون به، وليس فى جعبتهم نفوذ أو هيلمان أو سلطة أو شوكة يستطيعون بها الحصول على حقوقهم، فتضيف إليهم هموماً جديدة وأثقالاً عظيمة، بأن تصادر، أو تكاد، على حقهم الدستورى فى اللجوء إلى القضاء طلباً للعدل والنصفة التى لم يعد ينالها فى بر مصر إلاّ الأقوياء! إن الرسوم الفلكية المفروضة فى المشروع تصيب العدالة ذاتها فى مقتل، وتقضى قضاء مبرما على حق التقاضى الذى كفلته المادة (68) من الدستور، وتصادر على حقوق الشعب، وتقتل المحاماة التى تعانى بالفعل كثيراً من الهموم والشجون، ومعظمها، إن لم يكن كلها، ناجم عن تدخل الدولة وسعيها الحثيث لاحتواء النقابة وإجهاض دورها الوطنى والمهنى على حد سواء! من قصر النظر أن ينحصر مرفق العدالة فى «الجباية». فالجباية لوزارة المالية والضرائب أصابت فيها أم أخطأت، أما وظيفة أو قلْ رسالة وزارة العدل فهى إرساء العدل وإحقاق الحق وتيسير التقاضى وإتاحته للفقير قبل الغنى، وللضعيف قبل القوى، وللمحكوم قبل الحاكم. قد يستطيع الغنى والقوى والحاكم أن يستغنى بماله أو بغناه أو بشوكته أو بسلطانه عن التقاضى أو طلب العدل من القضاء، أما الفقير والمغبون والمقهور فلا سبيل أمامه إلاّ القضاء للاحتكام إليه، طلباً للإنصاف الذى عزَّ عليه الوصول إليه! النظر إلى الرسوم القضائية نظرة «جباية» أو دعم لميزانية الدولة، نظر قصير بل ضرير، لأن هذه القضية لها أبعاد اجتماعية تخص شرائح المجتمع الفقيرة وغير القادرة، وأبعاد قانونية تتصل بمدى احترام الدستور حين تصل المبالغة فى الرسوم القضائية إلى حد التعجيز الذى يصادر على حق التقاضى المستمد من الدستور، وأبعاد اقتصادية تتصل بتوازنات شرائح وطبقات المجتمع، وأثر هذه المبالغة على كتم حقوق كانت جديرة بالإنصاف والإحقاق .. لم يُشْرع القضاء للجباية أو ليكون مصدر دخل للدولة، أو لجبر خلل ميزانيتها، وإنما لإشاعة الحق والعدالة والأمان فى المجتمع، حتى لا يطمع قوى بقوته، أو غنى بثرائه، أو ظالم بشوكته. سيادة العدل بين الناس هى صمام الأمان للمجتمع، وهى صمام ضربه مشروع القانون فى الصميم! بقى أن نسترعى عناية الحكومة إلى أن الدستور والقانون يحميان حق التقاضى من إساءة استعماله أو التعسف فى ممارسته، ويفرض القانون وأحكام القضاء تعويضات ضخمة على من يسىء حق التقاضى أو يستخدمه للدد فى الخصومة والنكاية بعباد الله، ولذلك فلا يجوز التذرع بهذه التعلّة بقالة إن المقصود ضبط اللجوء إلى التقاضى، فضمان ذلك موجود ومحقق، بينما المشروع جاوز إلى مصادرة حق التقاضى ذاته بالرسوم الباهظة الهائلة التى فرضها خارج ما يستطيعه الناس! لم يقدر المشروع الضرير تراكمات مشاعر الغضب والتعاسة حين يشعر الفقير وغير القادر بأن حكومته بدلاً من أن تيسر له سبل التقاضى أقامت العراقيل فى وجهه، وحبسته أسيراً لفقره وعجزه عن تدبير رسوم تخرج عن حدود إمكانياته واستطاعته! هل بحثت الحكومة عن أموالها الضائعة الفاقدة فى مجالات كثيرة، بدلاً من إرهاق الشعب وإثارة الالتهابات والاحتقانات ومعها الاعتصامات والمظاهرات؟! هل بحث أحد فى أثر هذا المشروع الهمايونى على أداء المحاماة وحياة وعمل المحامين؟! هل تأمل أحد فى محاذير بل ومخاطر مصادرة حق التقاضى؟! لقد عشنا عمرنا، وأعمار السالفين، فى ظل مبدأ «مجانية العدالة»، حتى تكون فى متناول الفقير قبل الغنى، لذلك أذهلنى واستوقفتنى فقرة تقدم للمشروع بأنه لمواجهة التطور التكنولوجى فى الخدمة القضائية ورفع مستوى أدائها وأداء العاملين فيها. هذا تخليط وخلط بين واجب الدولة فى تدبير مصادرها، وحق المجتمع فى مجانية العدالة. إن القضاء فى مقدمة العلامات الفارقة بين المجتمعات المتقدمة والأخرى المتخلفة، والقضاء الميسر السريع هو بشير التقدم والعدل وأمان المجتمع.. فهل حفظنا قضاءنا وصنّا العدالة من معاول هدمها الذاتية الآتية منها لتكون وبالاً عليها؟!!!