ما سوف يلى فى هذا المقال ليس راجعا لتفكيرى وحده، وإنما يعود إلى فكرة عرضها أحد الأساتذة من جامعة ستانفورد الأمريكية كأحد الحلول لمشاكل العالم المعاصرة. وقامت فكرة الرجل على قدمين: الأولى: أن العالم كله يتجه نحو الحضر، والمدن الكبرى على وجه التحديد، أو ما يعرف باسم «الميجا سيتى»، أى تلك التى يتعدى عدد سكانها الخمسة ملايين نسمة. ومن أجل ذلك تطورت تكنولوجيات كثيرة تخص العمليات السكنية والإنتاجية فى تلك المدن سواء من حيث النزول إلى الأرض، أو للصعود إلى السماء. وربما كانت مدينة هونج كونج التى مساحتها 1000 كيلومتر مربع فقط، ويعيش عليها 8 ملايين نسمة هى المثال الأكبر على ذلك حيث إن ناتجها المحلى الإجمالى وحدها يتعدى ذلك المقدر لغالبية دول العالم. والثانية: أن هذه المدن بما فيها من تنظيم، وتكنولوجيا ربما سوف تكون هى الحل للتنامى السكانى العالمى، فلم يعد العالم على استعداد للتوجه إلى الريف، أو العيش فى الصحراء، وخلال الأعوام الأخيرة توغلت الغابات فى أمريكا الجنوبية على المزارع الملاصقة لها، كما زحفت الصحراء على الأخضر فى مساحات واسعة من أفريقيا. ووفقا لتقديرات الرجل، فإن نوعية «هونج كونج» من المدن العصرية ليست فقط اتجاه المستقبل، بل إنها سوف تكون الحل لمشكلة الزيادة السكانية فى العالم حيث سيكون بقدرة ولاية تكساس وحدها أن تستحوذ على كل سكان العالم الذين يبلغ عددهم ستة مليارات نسمة. إلى هنا انتهى كلام صاحبنا، وربما كان الرأى العام المصرى ليس جاهزا كثيرا لتداول هذه الأفكار، نتيجة انشغاله بالقضية الفلسطينية وكارثة غزة وعمليات الصلح بين فتح وحماس، ولكننا لا نستطيع الانشغال بكل ذلك طويلا، ليس فقط لأن عدد سكان مصر قد وصل إلى 80 مليون نسمة، ولكن لأن جميع مجهوداتنا خلال العقود الماضية للخروج من الوادى «الضيق» لم تأت إلا بنتائج محدودة. فما حدث بالنسبة للتوجه نحو الساحل الشمالى على البحر الأبيض، أو فى اتجاه الجنوب فى توشكى، أو شرقا نحو البحر الأحمر، أو حتى سيناء، لم ينتج عنه تغيير يذكر فى توزيع السكان الذين لا يزالون يحتضنون بعضهم البعض داخل الوادى الضيق، وفى مدينتين فقط تنتميان إلى طائفة « الميجا سيتى» هما القاهرة والإسكندرية، وفقط ولا غير، يوجد ثلث سكان مصر. مثل ذلك لا يمكن استمراره إلى الأبد، وهو شاهد على حالة من الاختلال فى توزيع السكان، ولمن يحب الحديث عن الأمن القومى فإن سيناء فى خطر داهم لأنها لاتزال تشكل فراغا سكانيا داعيا إلى الطمع والجشع. والحل الذى ينتج عن الفكر المتقدم هو إنشاء عدد من «الميجا سيتى» على البحرين الأحمر والأبيض وخليجى العقبة والسويس تقوم كلها على الفكر العالمى لمدن مثل هونج كونج وسنغافورة أو حتى دبى بحيث تشكل كلها مناطق جذب كبيرة وليس مجرد مناطق سياحية محدودة مثل شرم الشيخ أو مارينا أو الغردقة أو مرسى علم، وكلها نقاط ضوء على سواحلنا ولكنها ليست المدن التجارية الصناعية السياحية العلمية التى تشتبك مع المدن المماثلة فى العالم بشبكة واسعة من الاتصالات والمواصلات. البعض منا قد يرى أن مثل هذا التفكير ليس ملائما لمقتضى الحال، وأن مناخ الأزمة العالمية ليس هو الوقت الذى يكون فيه الحديث عن المشروعات الكبرى، وربما يرى البعض الآخر أنه لا توجد لدينا النفس ولا الإرادة للتخطيط لعالم قادم وإلا لما تأخر تعمير سيناء كل هذا الوقت رغم الغناء لها ثلاث مرات كل عام فى السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان والخامس والعشرين من أبريل. ولكن النصيحة التى استمعت لها مرارا وتكرارا خلال حضورى للمنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس كانت أن أوقات الأزمات هى زمن الأحلام الكبرى التى تحرك خيال الناس نحو المستقبل. والغريب أننى طرحت الفكرة على واحد من وزرائنا المشاركين فى دافوس، فكانت إجابته أن الفكرة بالفعل موجودة، وأن هناك تصورا قائما حولها. وللأسف فإننى لم أستأذن الوزير فى ذكر اسمه، ولكن إذا كانت الفكرة موجودة فلماذا لا يتم طرحها على الناس لأنها على الأقل سوف تدل على أن هناك مَنْ يفكر فى مستقبل هذا الوطن؟!.