فى حفل عشاء نظمته القيادة القومية لحزب البعث السورى فى دمشق، على هامش المؤتمر الأخير للحزب فى الثمانينيات، وقف الرئيس الراحل، حافظ الأسد، فى استقبال ضيوفه الذين كان من بينهم دبلوماسيون عرب وأجانب، وعدد محدود من الصحفيين المقربين يقدم لهم كبار رجال الدولة. ولم يكن هناك شىء لافت للانتباه أكثر من تقديمه لوزير دفاعه آنذاك، حيث قال «الأسد الأب» لمدعويه: «العماد طلاس.. يهوى القراءة، ويعشق الزهور، وله باع فى الزراعة.. وفى أوقات الفراغ يعمل وزيراً للدفاع»! القصة معروفة ورواها الكاتب البريطانى الشهير «باتريك سيل» فى كتابه «الأسد والصراع على الشرق الأوسط». صحيح أنها كانت مجرد مداعبة، إلا أنها تحمل العديد من الدلالات، وتحكى حقيقة المأزق السورى من يومها حتى الآن. هذا المأزق الذى يتفاقم منذ رحيل «الأسد الأب» عام 2000، ولم تكن محاولة بعض الضباط السوريين للانقلاب على نظام «الأسد الابن، خلال الفترة الماضية، إلا أكبر دليل على ذلك. منذ عام 1967 حتى هذه اللحظة والخطاب السياسى السورى لم يتغير، وجوهر هذا الخطاب أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وبما أنه لا توجد معركة ولن تكون هناك معركة، ومع ذلك يسيطر «البعث» على كل شىء.. المال والثقافة والإعلام، وغير ذلك ويرهن حياة السوريين باسم معركة وهمية، فإن الوضع الداخلى مهدد بالانفجار إن آجلاً أو عاجلاً. وإذا كانت مصر حررت أراضيها من خلال الحرب تارة والسلام تارة أخرى، والأردن نجح أيضاً فى توقيع اتفاقية سلام مع الإسرائيليين الذين انتهجوا التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، فإن دمشق استسلمت لسياسة الأمر الواقع التى فرضتها تل أبيب على سوريا «لا سلم.. لا حرب»، ومنذ 1981 والجولان جزء رسمى من إسرائيل، ولا تستطيع أى حكومة إسرائيلية أن تتخذ أى قرار بشأن هذه المساحة من الأرض إلا بالرجوع للكنيست، والحصول على موافقة الغالبية العظمى من نوابه. ولأن الرئيس السورى لا يريد أن يعيش هذه اللحظة، التى تكون فيها فلسطين محررة أو لبنان، فإنه يجد أن الأسهل بالنسبة له هو العمل على تعطيل التفاوض على المسارين الفلسطينى واللبنانى. ومن ثم هو صاحب المصلحة الأولى فى الانقسام الفلسطينى والانشقاق اللبنانى. فضلاً عن أنه يعيش فى الداخل على معادلة سياسية فيها الاحتلال وليس من دونه. ودمشق لم تذهب إلى أمريكا للمشاركة فى مؤتمر «أنابوليس» للسلام ولم تقبل الوساطة التركية للتفاوض مع الإسرائيليين، إلا لأنها خافت أن يفوتها هذا القطار، ولا تستطيع اللحاق به فيما بعد، وتود سوريا أن تصل المحطة قبل القطارين الفلسطينى واللبنانى، وهذه هى المشكلة. ثم إن سوريا وفى الوقت ذاته تشجع اللعبة الإيرانية فى المنطقة لأنها تخشى من الفشل فى عملية السلام لأنها تريده ولا تريده. وسوريا مثلها مثل طهران تريد العودة بمصر إلى ما قبل عام 1977، وهما لا تدركان أن هذا مستحيل، لأن الحرب بالنسبة للقاهرة قرار استراتيجى مثله مثل السلام. إن حقيقة التحركات السورية على الساحة الإقليمية أشبه باللعب فى الحديقة الخلفية وكلها ردات لأفعال، هدفها التشويش على واقع وأبعاد المأزق السورى، لذلك لا مانع من الهجوم على الدولة المصرية أو انتقاد الموقف السعودى، أو السعى للتحالف مع أدوات وقوى صغيرة تعمل فى خدمة من يريد، المهم التعتيم على حقيقة الموقف السورى الذى وصل إلى درجة من التناقض واللاعقلانية غير المسبوقة.