.. هذا المعنى -تحديداً- هو ما قصدته صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية عندما أشارت إلى ما سمته فن الخروج من السلطة، فالمسألة من وجهة نظرها ليست بالبساطة التى يمكن أن يتصورها البعض ممن يعتقدون أن الرئيس -أى رئيس- يظل فى مقعده يمارس سُلطاته حتى الساعة الأخيرة من مدته الرئاسية ثم يحمل عصاه على كتفه راحلاً لا يلوى على شىء!! تصف الصحيفة الفرنسية هذا التصور بالساذج وتذهب إلى أن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك، فكل رئيس يظل مشغولاً بالطريقة التى سيطوى بها صفحته فى الحكم، بل منهم من يشكل لجاناً من صفوة مستشاريه وخلصائه للإعداد الجيد لخروجه بحيث لا تكون له ذيول أو فضائح (قضايا مالية أو أخلاقية..) وتنسب الصحيفة إلى الرئيس الفرنسى الأسبق فرانسوا ميتران قوله لأحد المقربين إليه: «لا أريد أن أرى فى الصحف خبراً عنى أو صورة لى قط! وكأنى رحلت -فعلاً لا قولاً- عن الدنيا..». والمعروف أن فرانسوا ميتران قد نُصح بأن يتخلص من كاتم أسراره، الذى فوجئ الفرنسيون بخبر مقتضب يقول: انتحار السكرتير الخاص للرئيس ميتران فى ظروف غامضة، ولم يكد يفيق الناس من هذا الخبر المأساوى حتى خرجت عليهم صحيفة «فرانس سوار» بصور ضخمة يظهر فيها الرئيس ميتران واقفاً مع زوجته الثانية (أو محظيته) وهو يربت على كتف ابنته غير الشرعية (مازارين).. وقيل إن ميتران أوعز لبعض الصحف والمجلات الفرنسية بأن تُسهب فى حديثها عن هذه الزوجة التى ظلت طوال الأعوام السابقة فى الظل لا تتكلم، وتكتفى بالزيارات السرية التى كان يقوم بها سيادة الرئيس تحت جناح الظلام مُستعيناً بالكتمان!.. وهكذا عندما ترك ميتران مقعده الرئاسى فى قصر الإليزيه كانت الميديا قد هتكت -عن عمد- حياته الخاصة، ولم تجد -بعد ذلك- ما تقوله، وتركته ينعم بحياة هادئة حتى رحل عن دنيانا فى صمت أشبه بصمت القبور. والحال لا يختلف كثيراً عما حدث للرئيس الباكستانى السابق برويز مُشرف، فلقد كان الرجل مهموماً بالكيفية التى سيترك بها الحكم.. وسأل واستفسر واستشار، فنصحه أصدقاؤه الأمريكيون أن يُشعل باكستان ناراً فور إعلان قراره بالتنحى عن السلطة، حتى ينشغل الباكستانيون بالحرائق والقتل والاغتيالات التى تجرى فى طول البلاد وعرضها كما ينشغل القادة الجُدد بتثبيت أركان حكمهم ولا يجد أحدهم وقتاً لكى يتحدث عن الجرائم التى ارتكبها برويز مُشرف طوال حكمه، أو عن الأموال والثروات التى قام بتهريبها قبيل ساعة الصفر التى قرر فيها أن يترك مقعد السلطة شاغراً. وبالفعل، غابت سيرة برويز مُشرف فور خروجه وكأنه أصبح نسياً منسياً، ولا يكاد يتذكره أحد اليوم. .. والثابت عملاً أن إدارة جورج دبليو بوش فعلت الشىء نفسه ولكن بطريقة أخرى لكى تضمن خروجاً آمناً لزعيمها الذى ملأ الأرض ظلماً وجوراً، وزيّف، وكذب، وقتل، وسفك الدماء، وأشعل الحرائق فى أفغانستان والعراق، وأزهق أرواح مئات الآلاف دون أن يهتز له جفن! وبحسب الصحيفة الفرنسية لقد عكف عدد من خلصاء جورج دبليو بوش على وضع السيناريو الدقيق الذى يوفر خروجاً آمناً من السلطة لهذا (المجرم الكبير) وكان مطروحاً أن تقوم إسرائيل بعمليات استفزازية لإيران لتوريطها فى حرب ينشغل الجميع بها، على أن يسحب جورج دبليو بوش نفسه من وراء مكتبه البيضاوى فى البيت الأبيض دون أن يدرى به أحد.. لكن هذا السيناريو كان محفوفاً بمخاطر كثيرة وقد لا يكون بالإمكان (فرملته) فى الوقت المناسب بالنظر إلى تداعياته على اقتصاد أمريكا (المُنهار أساساً) أو على الحلفاء فى منطقة الخليج وإسرائيل نفسها، لذلك لجأ مستشارو الرئيس الأمريكى إلى السيناريو الأسهل وهو ما تم بالفعل، فنصحوه بأن يوعز إلى إسرائيل (أيضاً) أن تحرق غزة بشراً وحجراً، فتقوم الدنيا ولا تقعد على الدولة العبرية التى اعتادت، بل احترفت ألا تلقى بالاً لهذا الصياح، سواء فى الأممالمتحدة أو فى المنطقة العربية، ووسط هذه الضوضاء الكثيفة ينسل جورج دبليو بوش كما تنسل الشعرة من العجين.. ويخرج دون أن يدرى به أحد. ويبدو أن من نصحوا الرئيس الأمريكى السابق بهذا الحل كانوا حاذقين إلى حدود بعيدة، لأن أحداً لم يعد يذكره حتى قبيل خروجه من البيت الأبيض بأسبوعين على الأقل.. وهكذا ضمن حياة هادئة نسبياً، خصوصاً أنه كان يخشى أن تتم تعبئة الرأى العام العالمى ضده، كما ظهر فى عدد من الكتب والمقالات، بهدف التحريض على رفع دعاوى قضائية والمطالبة بمحاكمته كمجرم حرب بسبب جرائمه فى جوانتانامو، وأبوغريب فى العراق. وتذكر «لوموند ديبلوماتيك» أن جورج دبليو بوش كان يحسب لخروجه من البيت الأبيض ألف حساب، وطلب من الدائرة الضيقة التى كانت تلازمه كظله وفيها ديك تشينى (نائبه) وكوندوليزا رايس (وزيرة خارجيته) أن يكون خروجه سلمياً.. ويمر على الناس مرور النسائم.. وفى قول آخر أنه تمنى أن يشعر به الناس وكأنه «حلم» أو «طيف» لا يعرفون ما إذا كان حقيقة أم خيالاً! والحق أن إسرائيل قامت بالمهمة على أكمل وجه، فسوّت كل شىء فى غزة بالأرض، واستخدمت ترسانتها العسكرية الضخمة ضد شعب أعزل لا يملك (حتى الطوب) لكى يدافع عن نفسه.. ولم يكن بوسع إسرائيل أن تتردد فى تقديم هذا الصنيع لجورج دبليو بوش الذى لم يخذلها قط طوال السنوات الثمانى العجاف التى حكم فيها أمريكا والعالم.. وها هى قد نجحت فى أن تشغل الناس عنه، حتى كادوا ينسونه تماماً وينسون الكوارث التى ارتكبها فى حق الإنسانية.. وما كادوا يفيقون حتى وجدوا أنفسهم أمام تنصيب أسطورى فى حفل مهيب للرئيس الجديد، فانشغلوا به أيضاً، وأصبح جورج دبليو بوش بعيداً عن العين.. وعن القلب أيضاً، وكاد يدخل -فعلاً لا قولاً- فى باب النسيان، خصوصاً بعد أن تركز حديث الناس عن مشكلات وإعمار غزة، وتصورات إدارة أوباما للعالم الجديد.. وهكذا يخرج الرؤساء من السلطة بعد توفير جميع الضمانات للعيش فى هدوء وسكينة بلا منغصات.. ولا اضطرابات معوية.. تماماً كالخارج من الحمّام!