فى السابع والعشرين من ديسمبر الماضى، شنت إسرائيل أعنف هجماتها على قطاع غزة منذ عام 1967، مستخدمة كل ما لديها من إمكانيات عسكرية لتركيع المقاومة ووقف صواريخها على جنوب إسرائيل وفرض معادلة جديدة تعيد صياغة الواقع على الأرض، وأكد كل من أولمرت وباراك وليفنى وأشكنازى أن هذه الحرب كانت ضرورة لابد منها، وأنه قد آن الأوان لكبح جماح الإرهاب الفلسطينى، وبدت إسرائيل، من خلال تصريحات مسؤوليها، واثقة من نصر محقق، وأبرز هذه التصريحات ما جاء على لسان بيريز حين قال: «إن إسرائيل أنجزت فى حربها على الإرهاب فى 16 يومًا، ما لم تنجزه دول كثيرة فى سنوات»، وأعلنت تسيبى ليفنى مرارًا وتكرارًا فى محافل مختلفة: «إن إسرائيل هى التى حددت متى تبدأ هذه الحرب، وهى وحدها صاحبة القرار فى اختيار الوقت المناسب من أجل وقف إطلاق النار» وصرح باراك ب«أن إسرائيل صارت قريبة جدًا من تحقيق أهدافها»، وأمام هذه التصريحات الواثقة من نتائج الحرب، كاد اليأس يتسرب للكثيرين من العرب والمسلمين، خاصة فى ضوء الخلل الظاهر بين قدرات المقاومة والآلة العسكرية الإسرائيلية، فما الذى يمكن أن تفعله صواريخ القسام وصواريخ جراد وقذائف المورتر وغيرها، أمام طائرات الإف 16 ودبابات الميركافا والقنابل الفسفورية الحارقة؟ كيف يمكن للمقاومين المحاصرين المحرومين من الطعام والشراب والطاقة ومن كل مقومات الحياة، مواجهة أعتى جيوش العالم وأسفكها للدماء، وإلى أى حد يمكن أن تصمد المقاومة؟ وإلى متى كان تصور صمود المقاومة مستبعدًا، ويقين الإسرائيليين فى النصر مؤكدًا، ولم يكن أمام العالم سوى انتظار ما سوف تسفر عنه الأيام التالية. ولكى تحسم إسرائيل الحرب بسرعة، وسعت من هجماتها الجوية والبرية والبحرية، وراحت تصعدها تدريجيًا عبر ما سمته المراحل الأولى والثانية والثالثة، والغريب أنه كلما زاد سقف التوقعات بقرب نهاية الحرب، يكتشف العالم أنها لاتزال فى بدايتها، وكلما تحدثت إسرائيل عن إحراز تقدم فى محور من محاور القطاع، يتضح أن المقاومة قد أجبرتها على التأخر فى محاور أخرى، وكلما تحدثت إسرائيل عن قرب تحقيق الهدف، يكتشف أنها لم تحرز إنجازًا على الأرض، وفجأة وقبل ظهور أى انتصار فعلى، تتخذ إسرائيل قرارها بوقف القتال فى يوم السبت الموافق 17 يناير 2009، وتتوقف عجلة القمع الإسرائيلية، وتهدأ أصوات المدافع، ويتأكد أن إسرائيل سوف تنسحب كليًا من غزة، ويتملك الكثيرين استغراب واندهاش وتساؤلات لا تقع تحت حصر: لماذا فشلت إسرائيل فى اجتياح غزة رغم تفوقها العسكرى والمعونات التى تنهال عليها من كل صوب وحدب؟ إذا كانت إسرائيل غير واثقة من نتائج الحرب فلماذا دخلتها أصلاً؟ ما الذى حصدته بعد 22 يومًا من هجومها الآثم على الأبرياء العزل؟ هل نجحت فى إسقاط حماس، وتقديم قطاع غزة على طبق من فضة كى تحكمه وتتحكم فيه السلطة الفلسطينية؟ هل تمكنت إسرائيل من وقف صواريخ المقاومة، هل نجحت بعد هدمها الأنفاق الموجودة على الحدود المصرية الفلسطينية فى وقف تهريب السلاح؟ هل تغير شىء فى الواقع الفلسطينى؟ هل حققت أى انتصار يذكر؟ إذا كان التخريب والتدمير والقصف واستعمال الأسلحة المحرمة، من الإنجازات العسكرية المهمة التى تفخر إسرائيل بها، فعن هذه الإنجازات حدث ولا حرج، فقد سوت إسرائيل خلال هذه الحرب 4 آلاف منزل بالأرض، وهدمت جزئيًا أكثر من 17 ألف منزل، وقصفت 27 مسجدًا - مع سبق الإصرار والترصد - فوق رأس المصلين، ناهيك عن المدارس والجامعات والمستشفيات والمبانى التابعة للوكالة الدولية «الأونروا» والمقار الحكومية والأمنية وغيرها، إذا كان تعريف النصر يكمن فى المذابح والمجازر التى ترتكبها جهة ما فى حق جهة أخرى وتخويف وتشريد الآمنين وإجبارهم على التحاف العراء، فبكل تأكيد إسرائيل هى المنتصرة والرابحة فى الحرب، لأنها لم ترحم طفلاً أو أماً أو شيخًا، لأنها أطلقت رصاصاتها على الأجانب وأصحاب الأرض، على الطواقم الطبية ورجال الإعلام، على من يحملون باقات الزهور ومن يحملون أعلام الأممالمتحدة، دفنت أسرا بكاملها تحت الأنقاض، قتلت أكثر من 1400 شخصً وأصابت 5500 آخرين من بينهم 400 فى حالة موت سريرى و300 أصيبوا بإعاقة مستديمة. ما حققته إسرائيل من هذه الحرب نجاح غير مسبوق فى توحيد العالم على كراهيتها، بسبب سياساتها العدوانية، لذا اندلعت المظاهرات الغاضبة فى العالم كله، الداعية لعزلها وربما طردها من الأممالمتحدة، وقامت بعض الدول مثل موريتانيا وقطر فنزويلا وبوليفيا بقطع العلاقات معها، وطالب الأمين العام للأمم المتحدة بإجراء تحقيق فورى فى عمليات قيام إسرائيل بقصف منشآت تابعة للمنظمة الدولية ودعت هيئات قانونية وحقوقية لإرسال لجان تقصى حقائق للوقوف على حقيقة جرائم الحرب الإسرائيلية ومحاسبة مرتكبيها. هكذا انتصرت إسرائيل فى غير ما تطمح إليه، فأعادت القضية الفلسطينية للواجهة وزادت التعاطف الشعبى معها، وعمقت جذور المقاومة، وبدلاً من أن تقضى على حركة حماس زرعت مقاومًا فى كل بيت على حد تعبير خالد مشعل، أنفقت مائة مليون دولار يومًا طيلة المعركة، بحثًا عن ورقة للتفاوض، لكنها خرجت خاوية الوفاض. لقد حسمت إسرائيل الحرب فى غير صالحها، وأثبتت عجز استراتيجيتها العسكرية عن مواجهة المقاومة المشروعة، فحماس ليست تنظيم القاعدة، بل حركة سياسية اجتماعية، تضرب بجذورها فى العمق الفلسطينى والعمق العربى الإسلامى، ولابد فى التعامل معها من لغة أخرى غير لغة الدم، تصلح لإيجاد حل سياسى يحقن الدماء ويصل بالجميع لتسوية مرضية يقبلها كل الأطراف، ولابد كذلك من أن تستوعب إسرائيل الدرس القاسى سواء من حربها على لبنان أو على غزة، وتعى أن الحرب لم ولن تصنع أمناً لشعبها أو للفلسطينيين أو للمنطقة بأكملها وأن المقاومة ستستمر والعداء سيستفحل طالما بقى الاحتلال. [email protected]