إنها فكرة مجنونة أو هكذا اعتبرها رجل القانون الدولى الشهير الدكتور صلاح عامر، عندما تحدثنا فيها ذات مرة.. وبوسعى أن أسوقها فى السؤال التالى: لماذا لا تنسحب الدول العربية ال 22 من الأممالمتحدة. (أو على الأقل تُعلن تجميد عضويتها) احتجاجًا على سلبية هذه المنظمة وصمت مجلس الأمن إزاء جميع الجرائم التى تُرتكب ضد الشعب العربى الفلسطينى. وثمة إحصائية مُحزنة تقول: لقد ناقشت الأممالمتحدة عبر مجلس الأمن والجمعية العامة قضايا وإشكاليات تتعلق بأوضاع الشعب العربى الفلسطينى أكثر من 150 مرة، وصدرت بالفعل قرارات وتوصيات كثيرة، لم يُنفذ منها قرار واحد.. وهو ما جعل البعض، وهو على حق، يؤكد أن هذه القرارات لا تساوى قيمة الحبر المكتوبة به. بعد ذلك هل نكتفى فى كل مرة أن نُدين صمت مجلس الأمن أو مماطلته وتواطؤه مع إسرائيل ريثما تنتهى الأخيرة من مخططاتها الدموية التى تذبح فيها شعبًا أعزل على مرأى ومسمع من العالم. إننى أؤمن صادقًا بأن أحدًا لم يعد يُعير الأممالمتحدة أى اهتمام فلقد فقدت مصداقيتها منذ زمن.. وحدُنا نحن فى المنطقة العربية الذين نبدو (كالبُلهاء!) نصدق أن هناك شرعية دولية وأن هناك قانونًا دوليًا.. وأن هناك كيلاً بمكيال واحد.. مع أن واقع الحال يؤكد عكس ذلك.. إننى أرى أن فكرة الانسحاب من الأممالمتحدة هى فكرة عاقلة إلى أبعد حدود العقل، لأن منظمة كهذه، تعمل لحساب قوى بعينها على حساب دول وشعوب العالم، لم يعد من قبيل الشرف البقاء فيها أو حمل عضويتها بأى حال من الأحوال. ولستُ أهدف من وراء هذه الدعوة إلا لشىء واحد هو أن يكون الانسحاب أشبه بصفعة قوية تجعل هذه المنظمة تفيق من غيبوبتها.. فالثابت عملاً أنها تركت ميثاقها (المتوازن إلى حد ما) لتعمل وفق مواثيق أخرى تفرضها القوى الفاعلة فى النظام الدولى.. وتحديدًا الدول دائمة العضوية التى خطفت مجلس الأمن والأممالمتحدة بطاقة أجهزتها لحسابها الخاص. ليس فى الأمر أى جنون، فالعكس هو الصحيح بمعنى أن من حق أى دولة أن تعلن عن امتعاضها أو استنكارها المعايير المقلوبة التى تعمل بمقتضاها هذه المنظمة التى أنشئت فى الأصل لتكون حكمًا عادلاً بين الدول، لا ترجح كفة دولة على أخرى.. وتردع - بكل قوة - القوى الباطشة..! نعم من حقنا أن نُعلن رفضنا - كعرب - لهذه الموازين المختلة وأن نقول للعالم: هنا يجب أن نتوقف لتقييم المسار.. والإصرار على تفعيل آليات المنظمة لاستصدار قرارات متوازنة. وأحسب أن المنظمة الدولية - فى حال حدوث ذلك - سوف تُعيد حساباتها مع نفسها خصوصًا إذا وجدت أن (وجودها) بات مُهددًا. وأكثر من ذلك أرى أن نفكر فى عمل «أمم متحدة بديلة» أو مُوازية عبر تفعيل مسألة انسحاب الدول العربية من خلال جلب التأييد لها من جانب مجموعة دول عدم الانحياز، ودول ال 77، ودول منظمة المؤتمر الإسلامي، ودول أمريكا اللاتينية التى تذوق (جميعًا) ألوانًا شتى من التعامل المؤذى لمشاعرنا كدول عالمثالثية. أن تكون هناك أمم متحدة بديلة هو الحل السحرى الذى يجعلنا نكف عن البكاء على اللبن المسكوب.. وأرجو أن نعتقد جميعًا - أننا بذلك - لن نأتى شيئًا نُكرا.. فلقد سبقتنا دول كبرى فى هذا المضمار.. فها هى روسيا تُلوح قبل أسابيع بأنها بصدد إنشاء منظمة (أوبك بديلة) عن المنظمة الحالية التى تسيطر على قراراتها الولاياتالمتحدة.. وتتحكم فى إنتاج وأسعار النفط.. وقد رأت روسيا فى ذلك - وهى من الدول المصدرة للنفط - إضرارًا بمصالحها، لهذا دعت الدول المُتضررة الأخرى للتفكير جديًا فى إنشاء أوبك مُوازية.. وقد لا تكون روسيا جادة، لكن يكفى أنها أعلنت ذلك، مما جعل منظمة أوبك الأصلية تعيد حساباتها مرة أخرى، وتبحث أسباب غضب روسيا.. وفى كل الأحوال فإن الفائدة ستعم الجميع بهذا الدرس الذى لقنته روسيا لأمريكا ومنظمة أوبك معًا. شىء كهذا حدث إبان الغزو الأمريكى على العراق فى عام 2003 عندما اعترضت (فرنسا - شيراك)، (وألمانيا - شرودر) على هذا الغزو الذى لم يكن مبررًا من وجهة نظرهما.. ولكى تجبر أمريكا فرنسا وألمانيا على الانصياع لإرادتها، أعلنت تشكيل محور آخ (موازٍ) للمحور الفرنسى الألمانى، وأطلقت عليه محور B.A.B. وكان المقصود بلير (رئيس حكومة بريطانيا وقتذاك) وأزنار (رئيس وزراء إسبانيا) وبيرلسكونى (رئيس وزراء إيطاليا). وكان معنى ذلك أن أمريكا تريد كسر احتكار المحور الفرنسى الألمانى للقرار الأوروبى باعتبار أنه القاطرة التى تقود حركة الاتحاد الأوروبى.. وكانت هذه الفكرة الأمريكية كفيلة بأن تردع المحور الثنائى الفرنسى - الألمانى، خوفًا من حدوث انقسام داخل أوروبا.. وشاهدنا جميعًا كيف توددت أوروبا - لاحقًا - إلى أمريكا، وقيل وقتها إنها عادت إلى بيت الطاعة الأم لكن راضية مرضية. ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن العرب بوسعهم أن يفعلوا الشىء نفسه، فيلوحوا بالانسحاب من الأممالمتحدة أو تجميد عضويتهم والحديث عن إنشاء منظمة أممية بديلة أو موازية.. سوف تتعاطف معها بالضرورة عشرات الدول التى يهتك عرض سيادتها ليل نهار، الأممالمتحدة ومجلس الأمن لا لشىء إلا لأنها دول صغيرة لا حول لها ولا قوة. لقد بلغ السيل الزبى.. هذا صحيح، وآن الأوان لكى نعلن احتجاجنا من أجل كرامتنا التى تُداس بالأقدام فى مجلس الأمن وغيره من مؤسسات ومكاتب الأممالمتحدة. وعلينا أن نُسمى الأشياء بمسمياتها فهذه المنظمة لم تعد (بعبعًا) كما كنا نظن، فقديمًا أطلق عليها الجنرال ديجول اسم (البتاعة) استخفافًا، وحديثًا كانت السيدة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة تقول: أفيقوا أيها الغافلون، فلا توجد «أمم متحدة» ولكن يوجد مجتمع دولى تقوده الولاياتالمتحدة. أتمنى من كل قلبى أن نثأر لأنفسنا - ولو مرة واحدة فى العمر - وننسحب اليوم وليس غدًا من الأممالمتحدة.. هذا الكيان الهُلامى الذى قيل إنه مات بل شبع موتًا فى أحداث سراييفو وخرجت شهادة وفاته فى أحداث احتلال أمريكا للعراق.