يعتقد كثيرون أن المقاومة والسلام خصمان لدودان، وطريقان متوازيان لا يلتقيان أبدا. ومثل هذه الرؤية تنحدر بالسلام إلى مستوى الاستسلام، أو الخمود والقعود الكاملين، وهما ما ليس من السلام فى شىء، ولا يجب أن يحدث ذلك إلا فى حال الخيانة الوطنية الكاملة. ولا يمكن أن تتم الدعوة إلى التخاذل إلا من قبل أصحاب الاتجاهات الاستعمارية، حيث تفيد معطيات تاريخية دامغة أن العديد من الإمبراطوريات تبنت التبشير بالسلام لتخدير الشعوب التى وقعت تحت الاحتلال، واتخذته وسيلة لهيمنتها. ولا تزال هذه الرؤية متواجدة ومتجددة ومتفاعلة مع الواقع المعيش. ومثل هذا يجعل من مخاوف كثيرين من أن يتحول السلام إلى استسلام أمرا مشروعا ينطوى على منطق معقول، لا يمكن إنكاره. وتقوم هذه الرؤية التى يرصدها الألمانى هيرفريد مونكار فى كتابه الموسوم ب«الإمبراطوريات: منطق الهيمنة العالمية من روما القديمة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية» على افتراض بأن الكيانات السياسية الكبرى، ذات الامتداد الجغرافى الواسع، التى تتمتع بسلطة مركزية قوية بإمكانها أن تحول دون اندلاع الحروب التى تندلع بين الكيانات الصغيرة على خلفية ترسيم الحدود أو رغبة فى توسيعها أو الصراع حول الثروة والنفوذ. وقد عبر شاعر الامبراطورية الرومانية فرجيل فى «الإينيادة» عن هذا الأمر بقوله على لسان كوكب المشترى الذى كان الرومان يعتبرونه كبير آلهتهم: «الحرب ستضع أوزارها، والعالم المتوحش سيميل إلى الرقة والتسامح. الميثاق بين الآلهة والعباد، وكذلك الآلهة فستا وكويرينوس ومعه أخوه روموس، قد قرروا جميعا: أن أبواب الحرب المروعة، قد أغلقت بأقفال من حديد: أن الجنون الخسيس، أن العفريت قد كتفت يداه إلى الخلف بمائة وثاق صارم، وصار يجلس على الأسلحة الفتاكة عاضا بنواجذ تسيل منها الدماء حنقا». وكان الشاعر الإيطالى الشهير دانتى يتفق مع هذا الرأي، ويعتقد أن السلام لن يتحقق إلا إذا خضعت البشرية لسلطان واحد، أو لحكم مملكة كونية. وعلى المنوال ذاته سار منظرون معدودون فى تاريخ الفكر السياسى الأوروبى، فهاهو توماسو كامبانيلا وجيوفانى بوتير، يتورطان فى دعاية لخلق نظام سياسى أحادى، تسيطر عليه إسبانيا أيام مشروعها الاستعمارى، ويمتد منها إلى أوروبا، ثم إلى العالم بأسره. لكن وجهة النظر تلك تعرضت لنقد عميق من قبل الفيلسوف الألمانى عمانويل كانط الذى رأى فى كتابه الشهير «السلام الدائم» أن السلام الذى يفرض بالقوة والقهر أشبه بالهدوء الذى يخيم على المقابر. وكان يؤمن بأن مثل هذا النوع من السلام مآله الفشل الذريع، إذ إن قسوة الإمبراطوريات وجبروتها سرعان ما تواجه بالتذمر والتمرد من قبل المحكومين، فتنطلق الهبات وتندلع الثورات ضدها، وتعم الفوضى بعض جنباتها، فيغيب الأمان عن كثير من الناس. ثم جاء مونتيسكيو ليشن هجوما ضاريا فى كتابه «أفكار حول الملكية العامة» على الرومان ويتهمهم بتخريب العالم، وعلى الإسبان وينعتهم بالهمجية، ثم يكشف ادعاءات الإمبراطوريات بأنها تسعى إلى نشر المدنية، ويقول إنها هى التى قضت على المدنيات، وأنها فى نهاية المطاف تميل إلى تدمير نفسها بنفسها، ومن ثم فإن السلام الذى تدعى هذه الإمبراطوريات أنها تنشده غير قابل للتحقق. وما تقدم يبين أن السلام لا يمكن تحقيقه من خلال «قوة القهر المنفرد» تحت دعوى أن هذا من قبيل الواقعية السياسية، ولا من خلال «قوة القانون» لأن القوانين فى النهاية يسنها الأقوياء لتحقق مصالحهم، ولا حتى عبر «قوة الاتصال» مهما قام الداعون للسلام بتنمية وإرهاف مهارات تحليل الصراعات وصياغة استراتيجيات للتواصل والتحاور والتفاوض. ومن هنا تبقى نظرية توازن القوى، هى الأقرب إلى إنجاز سلام عادل، حيث إن الصراع يبدو هو القاعدة والقيمة المركزية فى تفاعلات الأطراف الدولية والتكوينات الاجتماعية، ولذا تسعى الدول دوما إلى توظيف فائض قوتها فى حفظ أمنها القومى. وتتعزز هذه الرؤية وفق نظرية التسلح فى شقها الذى يقوم على أن توافر القوة العسكرية يزيد من احتمالات إحلال السلام، عبر إيجاد حال من توازن الرعب المتبادل بين الدول، وحسب المبدأ الواضح الذى يقول: «من يريد تفادى الحرب عليه أن يعد لها العدة»، وهو ما تجليه الآية القرآنية الكريمة التى يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم». فهذه الآية لا تتحدث فقط عن القدرة الهجومية كما فهمها الكثيرون من الفقهاء، بل تقر أيضا مبدأ الردع، الذى يكبح جماح العدو وتجعل يده مغلولة فى شن الحرب، الأمر الذى يفرض السلام ويبنيه ويحافظ عليه. لكن السؤال الذى يطرح نفسه فى هذا المقام هو: ماذا لو كانت الدولة عاجزة عن تحقيق التوازن مع أعدائها؟ وماذا لو كانت الفجوة تتسع بينها وبين أعدائها كل يوم فى التسلح والقدرات الاقتصادية؟ هنا يفرض خيار المقاومة نفسه، ويصبح ضرورة لا بد منها، وطريقا استراتيجيا يجب السير فيه بخطا ثابتة. وتقدم الحالة اللبنانية شهادة دامغة فى هذا الشأن، فجيش لبنان لا يقارن عددا وعدة بجيش العدو الإسرائيلي، لكن المقاومة الباسلة تجعل تل أبيب تفكر ألف مرة قبل أن تشن هجوما عسكريا على الأراضى اللبنانية. والآن ماذا عن الدور الذى تلعبه المقاومة المدنية التى تبدأ من مجرد الاعتراض وتصل حتى الإضراب والعصيان المدنى فى تحقيق السلام الاجتماعى؟.. هذا ما سيجيب عنه مقال قادم إن شاء الله تعالى.