منذ رفاعة الطهطاوى (الذى عاش فى القرن قبل الماضى) ونحن مولعون بالمقارنة بين (ما يحدث) فى بلادنا (وما يحدث) فى البلاد الأخرى، وكلنا يعرف أن كتابه الشهير «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» ليس أكثر من تأملات سجلها -فى حينها- عندما وجد أن الناس فى بلاد الفرنجة يفكرون، ويعيشون بطريقة أخرى.. ولذلك لم يخلُ الكتاب من حسرات (هنا) وتوجعات (هناك) وطموحات وأمنيات (هنالك). ولست أنكر أن الكثيرين منا يفعلون مثل الطهطاوى ربما عن غير قصد أو سابق عزم ولعل الفارق بيننا أن الطهطاوى كان يكتب كل شاردة وواردة عملاً بوصية أستاذه حسن العطار، بينما نحن لا نكتب -ربما من كثرة المفارقات والتناقضات فى زماننا- وكان يندهش ويتحسر عندما تقع عينه على الأشياء من حوله، بينما نحن نبكى ونولول ونكاد نلطم الخدود من فرط الفوارق التى تفصل بيننا. أقول ذلك وفى ذهنى -فى الآن واللحظة- الخبر الذى يقول إن وزير الداخلية الهندى، وكذلك مستشار الأمن القومى هناك، قدما استقالتيهما إلى رئيس الحكومة لمسؤوليتهما (الأخلاقية) عن الأحداث الإرهابية التى وقعت فى مدينة مومباى وراح ضحيتها أكثر من مائتى شخص وعشرات الجرحى والمصابين. يا إلهى! هكذا يعترف الآخرون بأخطائهم، وتفرض عليهم الممارسة السياسية الصحيحة أن يواجهوا أنفسهم قبل أن يواجهوا جماهير الشعب معلنين تقصيرهم فى أداء مهمتهم. وعلى طريقة الطهطاوى وجدتنى أنظر من حولى -فى أرض المحروسة- مقارناً بين مسؤولينا ومسؤوليهم.. فهم هناك بشر عاديون يجتهدون وقد يصيبون أو يفشلون، لكن المسؤولية الأخلاقية فى السماء التى تظلهم جميعاً.. أما فى بلادنا فهم آلهة -أو أنصاف آلهة على أقل تقدير- لا يخطئون، وإذا وقعت حوادث كهذه فى ربوع مصر، فالمسؤول هنا سيكون معصوماً من الخطأ وكأنه آيات الله فى إيران لا يخطئون! وحده المواطن العادى هو الذى يخطئ ولذلك يستحق أن تسحق عظامه سحقاً وتقطع يداه ورجلاه من خلاف، والمثال الصارخ (المحزن والمُبكى فى آن) هو المواطنون الذين يفقدون أرواحهم برصاص ضباط الشرطة فى المنصورة والأقصر وأسوان والبحيرة والجيزة.. صحيح أن هناك تحقيقات جنائية تجرى على الفور -وهذا من حُسن الحظ- لكن هذا لا ينفى أن الجريمة الأخطر هى أن المسؤول (سواء كان شرطياً عسكرياً أو مدنياً) يرى نفسه من طينة شريفة غير الطينة الرديئة التى صُنع منها المواطن العادى! ناهيك عن غياب بل انعدام الشعور بالمسؤولية السياسية والأخلاقية، ولا تسأل عن الديمقراطية فنحن -والحالة هذه- رعايا لا مواطنون! وكلنا يذكر أن أحداثاً مشابهة -وربما أفظع من ذلك- وقعت فى مصرنا الغالية، ولم نجد سوى المواطن الغلبان والمقهور هو الذى يقف وراء القضبان مُتهماً! إنها إذن ديمقراطية الرعاع فى مواجهة ديمقراطية الصفوة وذوى النفوذ والسلطان! وإذا امتدت أعناقنا إلى مكان آخر -أقصد وزارة أخرى- لاكتشفنا عجباً، فها هو وزير الثقافة، المُلقب بالفنان، لا يستشعر أدنى مسؤولية عندما يحترق فى قصر ثقافة بنى سويف 59 مبدعاً من خيرة عقول مصر، ويرفض الاعتذار، الذى يكون فى هذه الحالة من أضعف الإيمان.. يحدث هذا فى مصر المحروسة ذات السبعة آلاف سنة حضارة، بينما على الطرف الآخر ترتعد فرائص وزيرة الصحة فى الكويت (السيدة معصومة بنت المبارك) عندما علمت باحتراق شخصين فى أحد أجنحة واحد من المستشفيات، فتقدمت باستقالتها على الفور، وقالت فى حيثياتها إنها تعترف بمسؤوليتها السياسية والأدبية عن هذا الحادث. وإذا كنت تريد أن تعجب، فاعجب من ثلة المثقفين الذين يعملون -كأجراء- فى وزارة الثقافة عندما وقعوا (عاراً) أقصد بياناً أعلنوا فيه عدم مسؤولية الوزير عن هذا الحادث الذى وقعه بسبب تقصير الضحايا أنفسهم.. وهكذا نصّب هذا النفر من مثقفى مصر أنفسهم قضاة وجلادين للضحايا، ومحامين فى الوقت نفسه للسيد الوزير. ولن تنسى الأجيال المتعاقبة هذه السقطة للثقافة والمثقفين فى مصر، كما لن تنسى كوارث ونكبات حلت عليهم مع وزيرى الإسكان (السابق) والتعليم (الحالى)، فالأول باع مصر لكبرائها (بثمن بخس)، والثانى شرعن الدروس الخصوصية، والغش الجماعى، ولم يجد الأول مبرراً لكى يقدم اعتذاراً، كما لم يجد الثانى حاجة لكى يتقدم باستقالته، والأدهى من ذلك أن الحكومة لم تر فى هذه الكوارث ما يشين أو يندى له جبين مصر خجلاً! وهنا وعلى الرغم منى وجدت صوراً تترى أمام عينى، الأولى لرئيس وزراء فرنسا الأسبق آلان جوبيه الذى كان تلميذاً أول وصديقاً صدوقاً للرئيس الفرنسى السابق جاك شيراك.. عندما تقدم هذا الرجل باستقالته من منصبه الكبير عندما تبين أنه حصل على شقة كبيرة من تلك الشقق المخصصة لذوى الدخل المحدود أو المتوسط، ولأنه ليس من هذه الفئة، اعتبرته الصحافة الفرنسية قد انتزع حقاً ليس من حقه.. ولم تُجد دفاعاته عن نفسه عندما قال إن أسرته كبيرة العدد (سبعة أولاد)! وشىء كهذا -وربما أفظع منه- عندما علم الفرنسيون فى منتصف تسعينيات القرن الماضى بأن رئيس وزرائهم، وكان يُدعى بيرجوفوا، قد انتحر برصاصات فى حلقه بسبب افتضاح أمره! أما الفضيحة التى تعتبر فى مصر فهلوة وذكاء فهى أن الرجل حصل على قرض من أحد البنوك بمبلغ مليون فرنك بفائدة 3.5٪ بدلاً من 7٪. واعتبرت الصحافة الفرنسية أنه استغل وظيفته ومقامه الرفيع كرئيس للوزراء وحصل على الامتياز.. وهو اتهام لم يقو بيرجوفوا علي تحمله فوضع فوهة مسدسه فى فمه وضغط على الزناد! يحدث (هذا) هناك.. أما فى بلادنا المحروسة (بإذن الله) فالاستثناءات أصبحت (القاعدة) والسطو والاعتداء على الغير أصبح (شطارة) والاستوزار بما يوفره من امتيازات ويسمح به من هامش عريض لتراكم الثروة أصبح الطموح الذى لا يدانيه آخر.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.