أمن أجل الوريث يباع بلد بأكمله، ويستدعى كل بالغ وعاقل وذى أهلية من الشعب ليشارك فى عملية انتحار جماعى فداء، وتتحول أعرق دولة فى التاريخ إلى مجرد شركة كبيرة، والشركة ستؤول فى النهاية إلى يد حفنة قليلة، والحفنة ستكون على الأرجح من رجال النظام ومن الطامعين فى مصر، وهؤلاء سيسلمون بلدنا العظيم على طبق من ذهب للصهاينة والأمريكان والتابعين لهم من بنى جلدتنا بغير إحسان إلى يوم يتحرك الشعب، ويستعيد ماله المستباح، وكرامته الذبيحة. أتموا جريمتكم بعيدا عن الشعب. أفقرتم الناس حتى جاعوا وضاعوا، ووعدتم باللبن والعسل حين أطلقتم برنامج الخصخصة قبل سبعة عشر عاما، وقلتم لنا تحملوا قليلا لتفوزوا بالرخاء، فتحملنا، فما زاد حالنا إلا سوءا، وانقضت السنون وسقط تحت خط الفقر أناس كنا نحسبهم من المساتير قبل أن تطل علينا سياساتكم العرجاء. ولما اطمأننتم إلى أن الشعب آمن بأنه لا حرية لجائع ولا كرامة لعريان عدتم بحيلة جديدة، لتصطادوا من ظلمتموهم بالأمس واليوم من بطونهم، وتقولون لهم بصوت جهور: هاتوا أيديكم لتبصم على ضياعكم إلى الأبد، ثم تقولون لأنفسكم أو تهمسون فى آذان تابعيكم: سيأخذون هذا الفتات، ونحن واثقون من أنهم سيضطرون إلى بيعه غدا، وسنقوم ومن حولنا بشراء ما يبيعون، فنملك كل شىء، ومن يملك يحكم، ومن يحكم تحت راية الطوارئ والاستبداد والفساد يتحكم ويتجبر، وليس أمام الرعية إلا الطاعة، وليس أمام الخدم والحشم سوى الانصياع، وما قررناه وقدرناه آت لا ريب فيه، وسيجلس من أردنا على أعناق الناس، وعليهم ألا يفكروا حتى فى مجرد الأنين. إنها جريمة بكل المقاييس. أتوزعون على الشعب أشياء يملكها بحكم الدستور، والبائع والموزع لا يملكان، وليس من حقهما أن يبيعا، اللهم إلا إذا كنتم تعتقدون أن الأرض ومن عليها ملك للحاكم، كما كانت فى القرون الغابرة، أو أننا مجموعة من الأسرى والسبايا التى غنمتموها فى حربكم الضروس ضد الشعب ومصالحه، أو أننا أمة من أغنام، أو قطيع أبله لا يفهم أن من باع مال الناس بثمن بخس، وبأسعار لا تساوى عشر أثمان الأرض التى عليها المصانع والشركات، لن تحل عليه الرحمة فجأة، وأن من نسى الناس عقودا واتهمهم بأنهم أغبياء أو قصر أو سذج لا يفهمون ولا يدركون ما يحقق مصلحتهم سيعود إلى الله وقد أتاب وأناب ليسلم مفاتيح كل شيء إلى أصحابه، ومن سخر من توزيع عبد الناصر الأرض على الفلاحين ليزرعوها، سيعود اليوم ليوزع الشركات على المواطنين ليربحوا منها. إنها جريمة. العالم كله يتجه إلى إعادة الدولة لتضبط الانفلات الرأسمالى وتقاوم الاحتكارات وتحفظ للأسواق سلامتها، ولقوى العرض والطلب مرونتها وانسيابها، وللحافز الفردى وجوده الضرورى من أجل النمو والتنمية، وأنتم مصرون على أن تمضوا فى سياساتكم الفاشلة، وبدلا من أن تجلسوا أمام الشعب لتعترفوا بأن تعاليم صندوق النقد الدولى لم تكن منزلة من السماء، وأن ما ينفع الناس ليس البيع والتفريط، وأن الفساد أكل حصيلة ما بعتموه، وأنكم تصرفتم فى ثروات مصر من الطاقة ونسيتم حق الأجيال القادمة، وكان همكم الوحيد هو توفير أى أموال تسيّرون بها نظامكم يوما بيوم، وبعدها فليأت الطوفان، أو يذهب الجميع إلى الجحيم. هل تعلمونأن ما تنوون الإقدام عليه جربته دول عديدة وفشل فشلا ذريعا، واسألوا المسؤولين فى روسيا والإكوادور وشيلى والبرازيل، أم أنكم تسعون إلى اختراع العجلة مرة أخرى؟ ودعونا نسألكم ولا تتهربوا: هل حل عليكم الإيمان بالحقوق الاقتصادية للشعب مرة واحدة بعد أن صفيتم كل ما يشير فى الدستور إلى «الاشتراكية» وإلى الحق فى المال العام؟ هل تتوهمون أن توزيع هذه الصكوك يكافئ توزيع الأرض على الفلاحين بعد «ثورة يوليو»؟ وأن جمال الثانى يمكن أن يكون كجمال الأول؟ تعالوا إلى الثرثرة. والثرثرة هى «الحوار المجتمعى»، هذا المصطلح العظيم الذى فقد معناه معكم يا أهل الحكم، بعد أن مسختموه كما مسختم العديد من المعانى والقيم والقضايا الكبرى فى حياتنا. فهذه هى المرة الرابعة التى تنادون المعارضة، التى جلدتموها فى مؤتمركم الأخير، ومعها القوى الوطنية والناس جميعا ليتحاوروا حول مسألة اتخذتم فيها قرارا، وشكلها النهائى محبوس فى أدراجكم، والقوانين التى تحكمها وضعها ترزيتكم الجاهزون لتفصيل كل شىء على مقاسكم. لقد صدقكم الناس ثلاث مرات واكتشفوا بعد أن تعبت حناجرهم من الكلام أن كل شىء معد سلفا، وأدرك من اعتقد أنكم أهل حوار ومشورة أنه واهم إلى أقصى حد، ومن ثم لا تدعوا أحدا، فالناس لن تلدغ من جحركم أربع مرات. اجمعوا صكوكم وارحلوا. فالمصريون ليسوا بلهاء، وردود أفعالهم على ما تنوون فعله تدل على أنهم يدركون مقصدكم، ويعرفون أنكم تبيعون الدولة نفسها للرأسماليين الطفيليين، من رجال المال الذين تطلقون عليهم زوراً وبهتانا رجال أعمال، وأن البيع سيتم على مرحلتين، فى الأولى الخداع كله، وفى الثانية المنفعة جميعها، الخداع للشعب، والمنفعة لتابعيكم، ليستمر هذا التحالف الجهنمى الذى يتحكم فى البلاد والعباد، والقائم على الزواج غير المقدس بين الثروة والسلطة.