كلما جنّ علينا ليل الفتنة البهيم يزورنى طيف «ألبير»، حتى اسمه بالكامل نسيته فى لجّة الأيام، كانت أياما، وكان يجلس إلى جانبى فى الفصل وديعا، لا أعرف من أين له كل هذه الوداعة، يقينا من وداعة الست والدته «أم البير»، كانت تصنع الزبادى بيديها، كنت أتناوله هنيئا مريئا، كنت أحبها حبا جمّا، كانت كُمّل من السيدات، لا يصدر عنها حرف يجرح، لم نسمع لها صوتا، كان صوتها خفيضا لا يكاد يبين. كان ألبير شاطر من يومه وكانت درجاته فى العربى لا تقل عن درجاتى، كان خطى جريئا يخمش الورق الأبيض، كان خطه خجولا يخشى خدش براءة الورق، كان رقيقا، يحلف بالعذراء فنصدقه، كان ينطقها «العدرا» بالدال وبدون همزة على السطر، لم يكن بحاجة إلى الحلفان، كنا نصدق بعضنا البعض، لا نملك من بضاعة الكذب إلا كذبا أبيض يتعاطاه الصغار هربا من كتابة الواجب، الكذب يودّى النار، كان ألبير يخشى النار مثلنا. كان يحب الحاج أحمد البهنيهى مدرس اللغة العربية والدين مثلنا، كان الحاج أحمد محل تقدير، فى وجهه ضياء يفيض منه البشر، نحب رؤياه، ونسعد للقاه، ونهشّ ونبشّ، كانت ضحكته ضحكة ملاك، بالكاد تفتر ابتسامته عن ثغره، يبسمل ويحوقل مفتتحا الحصة الأولى، نتلو المعوّذتين، و«قل هو الله أحد»، يربّت على ظهر ألبير، كان يخصه ببعض الحنان، كان يخشى عليه الوحدة فى حصة الدين، لم يهن عليه مرة أن يُخرجه بره الفصل فى برد طوبة، الدين لله، علّمنا الحاج أحمد الحروف كلها، حب لأخيك ما تحب لنفسك، كان يضرب مثلا، ونحب أمثاله، نقش فى قلوبنا حبا للذين آمنوا، كان يتنسم وجود الله، علّمنا الجمال، الله جميل يحب الجمال. كانت المدرسة فى حضن كنيسة، وكانت الكنيسة ملاك المدرسة الحارس، وكان القس الطيب يزور الحاج أحمد كل صباح، كانا صديقين، بينهما مودة ورحمة، كانت أجراس الكنيسة تدوّى فى قلب الفصول، وكأنها ألحان «الله الصمد. لم يلد ولم يولد» كان الحاج أحمد ينطقها من فم معطر بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. يزورنى طيف ألبير كثيرا كلما زعق أحدهم من نفسه المريضة بالفتنة، ليس من جنس ألبير، ألبير لايزال نقيا طاهرا، قلبه مملوء بالمحبة، ألبير لم يعرف حقدا ولم يضمر شرا ولم يتأبط شرا، يزورنى طيفه كلما افتأت أحدهم على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حفظ ألبير عن الحاج أحمد الكثير عن الرسول الكريم، كانت أيقونة الحاج أحمد «أدّبه ربه فأحسن تأديبه»، وعلى النهج نسير، تعلم ألبير من القس الطيب «باركوا لاعنيكم» وعلى نهجه كان يسير. كان يطرب لسورة مريم، كان الشيخ الضرير يتفنن فى قراءتها على الهواء مباشرة من ميكروفون المضيفة، بالقراءات السبع، كان يستمتع ويمتع السامعين، فى مدينتنا الهادئة قبل أن يدهمها الطوفان كان الشيوخ يفضلون سورة مريم لبلسمة أهل الفقيد، ونعيش مع آيات بينات من الذكر الحكيم، «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيّا»، طعم التمر فى الحلوق حلو، طعم الآيات حلو، «فَكُلِى وَاشْرَبى وَقَرِّى عَيْنًا..» كنا ننام قريرى الأعين، توقظنا أجراس الكنيسة باكرا، عم ميخائيل يسبق الديكة دوما، يصعد الدرج متمهلا، أدى واجبه، أيقظ النائمين. كنا نغتم إذا دقت الأجراس فى غير موعدها المضبوط، إذن هى إعلان وفاة، تنيّح أحدهم، كنا نهم إلى الجنازة فرادى وجماعات، نتسمّع التراتيل، كرياليسون، كرياليسون، لم نترجم العبارة، إنها تخص ألبير، من حق ألبير وحده، ارحمنا يا الله، إنهم ينبشون الآن فى الفحوى والمحتوى، يبحثون فى الآية والإصحاح، ألبير صديقى يزورنى كثيرا هذه الأيام، اللهم اجعله خيرا.