عندما شاهدت فيلم «بنجامين بتون» لبراد بيت تذكرت أغرب حالة رأيتها فى حياتى عندما كنت طالباً فى قصر العينى، البروجيريا، طفل فى العاشرة من عمره يعانى من شيخوخة، قصير منهك أصلع متغضن، ذابل وعجوز، عظامه زجاجية واهنة لا تحمله، ينتظر الموت بعد سنتين أو ثلاث على الأكثر!!، تساءلت عن سر هذه الشيخوخة اللعينة التى تزحف على البهجة والعمر والذاكرة فتسرق الحلم والأمل تاركة إيانا على رصيف انتظار الموت، محطة النهاية حيث يسود الأسود وينتصر على ألوان قوس قزح، وبرغم أن أخطبوط الشيخوخة أحكم أذرعه الخانقة على أحلام العلماء من قديم الأزل وحقنهم بحبر اليأس السام فإن العالمتين كارول جرايدر وإليزابيث بلاكبرن الحاصلتين على نوبل قد صعدتا على أولى درجات السلم الذى يؤدى إلى خزانة الأسرار وشفرة الموت، التيلوميراز البانى للتيلومير. التيلومير كلمة يونانية من جزءين «TELOS» بمعنى نهاية و«MEROS» بمعنى جزء، أى أنه الجزء الذى فى النهاية، ولكن فى أى نهاية يكمن التيلومير؟، إنه جزء صغير فى نهاية الشريط الوراثى الموجود فى نواة الخلية المسمى الكروموسوم ملفنا وكتابنا الوراثى الهائل المكتوب من تباديل وتوافيق لأربعة حروف فقط، واسم التيلومير المدون فى بطاقته الشخصية هو ت ت أ ج ج ج، من الممكن أن تعتبر هذه الحروف لغواً وهزاراً لكنها فى الحقيقة أكسير الخلود، العلماء يشبهون التيلومير بالحلقة المعدنية المثبتة فى نهاية طرف الحذاء والتى كلما قصرت ظهرت نهاية الرباط وبليت وهلكت وفقدت الحماية، كذلك الكروموسوم كلما تم نسخ المادة الوراثية أو الملف الوراثى قصر جزء من التيلومير، وكلما قصر طوله اقتربت الخلية من النهاية، حتى تدق ساعة الخلية المبرمجة فينتهى التيلومير وتودع الخلية الحياة وتموت بطارية شحن الساعة فتقف عقارب الزمن. التيلوميراز هو الإنزيم الذى يبنى ويطيل ويشيد التيلومير، يعمل بهمة ونشاط فى ثلاثة أماكن، المكان الأول خلايا الجنين، والثانى خلايا الجنس سواء طلائع الحيوان المنوى أو البويضة، أما المكان الثالث فهو للأسف خلايا السرطان! والتى تنقسم بلا هوادة وليس لها سقف أو خطوط حمراء، ولذلك فما فعلته السيدتان الأمريكيتان من فك مغاليق لغز التيلوميراز هو معجزة علمية وقبلة حياة للمسنين ومرضى السرطان. خطوات متفرقة ودقات متوالية على باب التجربة العلمية ساعدت فى حل اللغز، منها ما شاهده العالم هايفليك 1960 والذى ننسب إليه حد هايفليك الحرج، وهو الحد الذى تشيخ عنده الخلية وتبدأ فى الانتحار البطىء، عندما اكتشف أن خلايا الجنين فى المعمل تنقسم 80 مرة، بينما تنقسم خلايا ابن السبعين عاماً 20 مرة، ومنها خلود الأميبا والبكتيريا التى تنقسم بلا نهاية وتخرج ألسنتها لنا قائلة «هانحن اكتشفنا وذقنا طعم الخلود وأنتم معشر البشر مازلتم تبحثون عن سراب»، ولكن العالمتين الأمريكيتين أثبتتا أن العالم الحقيقى هو الوحيد الذى يحول السراب إلى حقيقة. كلمة أخيرة فقط، هاتان المرأتان العالمتان وياللعجب تم تكريمهما أثناء مظاهرات النقاب فى مصر، وهما بالطبع غير ناقصتى علم وأعتقد أيضاً أنهما غير ناقصتى دين.
