1 كبرت الكذبة حتى صدقها أغلب الناس، فاحذر أن تكون من بينهم، إلا إذا كنت من عشاق السير فى القطيع. «أنتم تسوّدون الواقع.. كل ما تكتبون عنه مشاكل فأين الحلول؟.. عندما نقرأ لك أو لفلان أو علان نفقد الأمل لأنكم لا تقدمون لنا البدائل.. طب وبعدين!.. أصبحت أتجنب القراءة لك لأنك تثير اكتئابى.. ليه ما بتكتبوش عن الحاجات الحلوة عشان تدّونا أمل.. هو يعنى ما فيش حاجة حلوة فى البلد!»، هل تبدو لك هذه العبارات مألوفة، هل أرسلتها إلىّ أو لغيرى يومًا ما، هل تقولها لنفسك بعد أن تقرأ الصحف المستقلة، أم لعلك قرأتها فى مقالات الكتاب الموالسين الذين يستشيطون غضبا من عدم تصديق الناس لأيمانهم المغلظة بأننا نعيش أزهى عصور الرخاء، أو سمعتها فى تصريحات المسؤولين المدلسين الذين يلقون بمسؤولية فشلهم على أكتاف المعارضين لهم؟ بينى وبينك، أنا كدت أقتنع يومًا ما بذلك المنطق المغلوط من فرط ما تعرضت له، ولم يمنعنى عن ذلك إلا ما عايشته بنفسى فى بريطانيا أم الصحافة وعمة الصحفيين، مازلت أذكر المرة الأولى التى سافرت فيها إلى بريطانيا قبل ثلاثة أعوام وقُيِّض لى أن أقضى هناك أربعين يوماً متصلة، وقتها كنت أعرف الصحافة البريطانية العريقة فقط كدارس لها، وليس كقارئ، ولذلك كنت أنفق كل يوم الكثير من الوقت والمال على الصحف والمجلات البريطانية، ولم أندم أبدا، فقد تأكد لى دقة الإكليشيه الذى كنت أسمعه دائما عن كون الصحافة معجزة بريطانيا الحقيقية، للأسف لا أستطيع أن أكثف لك شعورى المتعاظم بالانبهار مع كل صحيفة أو مجلة كنت أتعرف إليها، سواء كانت شعبية أو محافظة أو متخصصة أو تافهة أو نخبوية، يكفى أن أقول لك إننى كنت كلما وقعت تحت يدى صحيفة أو مجلة أخذت أعد كم موضوعاتها الجديرة بالترجمة لكى يقرأها المصريون أو يأخذوا عنها فكرة، ثم أبدأ أفكر فى الاشتراك فى تلك الصحيفة أو المجلة، قبل أن أفرمل التحليق فى خيالاتى مواجهًا نفسى بأننى لن أكون قادرا أبدا على قراءة ما سأشترك فيه فى ظل ضغوط العمل والحياة، مكتفيا بعد محاولات غربلة لا نهائية بصحيفة الأوبزرفر الأسبوعية ومجلة «ذى ويك» الأسبوعية ومجلة «إمباير» السينمائية الشهرية، والتى أقضى بفضل إنجليزيتى الكسيحة طيلة الشهر فى قراءتها، ليس هذا موضوعنا الآن فالحديث عن الصحافة الإنجليزية ذو شجون وسيقودنا حتما إلى حديث ذى سجون عن صحافتنا المصرية البائسة، ما أريد أن أقوله لك أننى لم أصادف- ولو على سبيل الخطأ- فى كل الصحف والمجلات البريطانية العريقة التى قرأتها طيلة ثلاثة أعوام عنوانا رئيسيا يتحدث عن إنجازات الحكومات البريطانية التى تستطيع أن تلمسها بنفسك وأنت تسير فى مناكب بريطانيا كل يوم، دائما أو دعنا لكى لا نقع فى خطأ التعميم نقول غالبا، لا صوت يعلو فوق صوت الحديث عن الإخفاقات والفضائح والمصائب والجرائم والكوارث القادمة، ليس فقط لأن الصحافة الإنجليزية تؤمن بذلك المبدأ العريق «الخبر السيئ هو الخبر الجيد»، وأن ما يجب أن تهتم به كصحفى هو خبر عن رجل عض كلبا وليس العكس، بل لأن تلك الصحف المحترمة تؤمن بأن إراحة القارئ وإشعاره بالأمل ورسم البديل له ليست مهمتها، بل هى مهمة الحكومات، أما مهمة الصحافة الرئيسية فهى «إزعاج السلطات» بالنقد والمكاشفة والمواجهة، لأن أى سلطة فى العالم إذا تدفأت وأحست بالأمان لدغت المواطنين بالإهمال والفساد واستغلال النفوذ. لا أدّعى أننى أمتلك علاقة وثيقة بأى من أفراد النخبة البريطانية، لكننى أزعم أننى كنت حريصا على تكوين علاقات بالبشر العاديين لمحاولة إكمال الصورة التى أكونها من قراءاتى ومشاهداتى، ومن بين هؤلاء البشر سأحدثك اليوم عن حلاقة أسكتلندية (أيوه سيادتك انسقت مرة وراء غواية الحلاقة لدى سيدة أسكتلندية واتضح أن عم سيد الحلاق برقبتها)، سألتها عن سر غرامها بتجميع صحف الإثارة التى تهوى نشر الجرائم والحوادث المفزعة، قلت لها إننى شعرت خلال الساعة التى تصفحت فيها الصحف وأنا أنتظر دورى أننى لابد أن أغادر البلاد فورا لكى أنفد بجلدى من كل هذا الكم من السفاحين والمجرمين، بينما أنا أتجول مع أسرتى بأمان وسلام فى شوارع مقفرة من البشر ومدن تمتلئ بالعواجيز أكثر من امتلائها بالسفاحين، فردت علىّ بحكمة الحلاقين العابرة للقارات، والتى اختصهم الله بها دونا عن غيرهم: «يا عزيزى أنا أعشق قراءة هذه الصحف خصيصا كل يوم قبل أن أبدأ فى العمل لكى أذكر نفسى أن الدنيا ليست آمنة وليست بخير أبدا، وأن مصير أولادى فيها يكتنفه الغموض وأنه لا بديل لى إلا أن أعمل بجد دون أن أتذمر أو أشتكى، وأننى لابد أن أنتهى من عملى فى موعده لكى أذهب للاستمتاع بصحبة زوجى وأبنائى، حتى إذا ما جاء اليوم الذى صادفت فيه سفاحا أو مجرما وتعرضت لكارثة أكون قد عشت حياتى كما ينبغى دون أن أقصر فى حق أولادى أو فى حق نفسى». ونكمل غداً، فنحن- كما تعلم- يا دوب بدأنا. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]