إذا كنت - مثلى - من عشاق حفلات أم كلثوم، فلا مفر أمامك من الاشتراك فى قناة «A.R.T» طرب، حيث تعرض يومياً حفلة من حفلات سيدة الغناء العربى ليلاً وتعاد نهاراً. وتفعل قناة روتانا طرب الشىء نفسه، وهناك كذلك قناة «رواق» وتبث من رأس الخيمة، إحدى إمارات دولة الإمارات العربية المتحدة، هذه القناة تقدم كل ليلة حفلة أو حفلتين من حفلات أم كلثوم، ناهيك عما يمكن أن يعرض متناثراً من حفلات سيدة الغناء العربى على القنوات العربية يومياً، وإذا حاولت أن تبحث عن حفلة لأم كلثوم على قناة من قنوات تليفزيون الريادة الإعلامية، أقصد التليفزيون المصرى، فلن تجد بالمرة، ولا حتى من باب السهو والخطأ، وإذا ما تكرم مسؤول أى قناة وقرر أن يعرض شيئاً لأم كلثوم، فلا يكون بصوتها، بل بصوت أحد المقلدين لها، حفلة من حفلات آمال ماهر أو غيرها، باعتبار أن التقليد عندهم أجمل من الأصل!! لست من أنصار نظرية المؤامرة، ولذا فلن أقول مع القائلين، إن هناك قراراً خفياً يمنع ظهور أم كلثوم على شاشة التليفزيون المصرى، فذلك لا يحدث مع أم كلثوم وحدها، لكنه يتم كذلك مع محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وغيرهم، حتى فى المناسبات الوطنية لا يتم عرض أى من الأعمال الوطنية لكل هؤلاء الكبار، ويكتفون بالأغنيات الركيكة، صوتاً وألحاناً وكلمات، من تلك التى انتجت فى السنوات الأخيرة، ولن أذهب مع من يقولون إن الفساد ملأ الأرض والبحر والجو، وأنه لا شىء يعرض على الشاشة دون الدفع أو «الزيس» وهؤلاء الذين ذهبوا إلى العالم الآخر ليس فى مقدورهم الدفع، ولذا فلا مكان لهم.. ولكنى أقول بملء الفم إن المتابع لما تبثه قنوات التليفزيون المصرى، خاصة الأولى والثانية والفضائية المصرية، لابد أن يشعر بالأسى الشديد لتراجع المادة الثقافية والفنية، خاصة مواد الثقافة والفنون الرفيعة، غير المطربين الكبار الذين تم تغييبهم، لن تجد برنامجاً عن فن المسرح أو نقل لعرض مسرحى، ناهيك عن الحفلات التى تقيمها دار الأوبرا المصرية، سواء كانت للموسيقى السيمفونية أو العربية، فضلاً عن الأوبرات العالمية التى تقدم بين حين وآخر، ومؤخراً أقامت مكتبة الإسكندرية حفلاً غنت فيه ثلاث فتيات، هن من أوبرا الإسكندرية، وكانت أصواتهن تهز عنان السماء جمالاً وإتقاناً رفيعاً، ومع ذلك لن تجد أى شىء عنهن، حتى فى قناة الإسكندرية، وللتذكرة فقط فإن تليفزيون عمان يقدم يومياً حفلاً سيمفونياً. وكان هناك برنامج اسمه «فن الباليه» كان يعرض على القناة الثانية، وكانت تقدمه وتعد المادة العلمية، وتجهز على نفقتها الأفلام التى ستعرض د. نيفين الكيلانى، أستاذ نقد الباليه بأكاديمية الفنون، وكان التليفزيون يدفع لها عن الحلقة الأسبوعية، مبلغاً وقدره ثمانون جنيهاً، ثم يخصم من هذا المبلغ الضخم، الضرائب، وفجأة باسم التطوير، تم إلغاء البرنامج، دون أى تنويه، ودون حتى كلمة شكر للسيدة التى تحملت هذا العبء سنوات، وقبلها كان هناك برنامج «أمسية ثقافية» وكان يعده ويقدمه فاروق شوشة، وتوقف البرنامج بالتدريج، ولما سألت الشاعر الكبير عن سر التوقف قال لى: لاحظت أن موعد العرض تم تأخيره فكان يعرض فى الثانية والنصف فجراً أو الثالثة، ولأنى من داخل المبنى، فقد فهمت المعنى وهو أن البرنامج لا لزوم له، فآثرت أن أنسحب وأختفى قبل أن يطلب منى أحد ذلك.. وقد تابعنا مؤخراً الإطاحة ببرنامج نادى السينما، كل هذه البرامج ألغيت دون أن يتم تجهيز بديل لها، والخلاصة أن قنوات التليفزيون ليس بها برنامج ثقافى كبير، يجعلك تجلس أمام الشاشة وتحرص على متابعته وهذا يعنى أن التليفزيون فى تراجع شديد، ليس فقط وفق ما ينبغى أن يؤديه ويقوم به، بل وفق ما كان يقدمه قبل سنوات. التليفزيون المصرى هو تليفزيون الدولة، وأتصور أن من أهم واجباته تقديم الثقافة والفنون الرفيعة إلى المواطن المصرى، حيث هو، وإذا كانت نسبة الأمية لاتزال مرتفعة، فإن التليفزيون يصبح هو مصدر المعرفة والتثقيف الأول لهذا القطاع، بمعنى أن معظم إنتاج وزارة الثقافة هو من نصيب المتعلمين والمثقفين فى المقام الأول، ولن يكون للأميين نصيب فى ذلك الإنتاج، ناهيك الآن عن الأمية الثقافية المتفشية بنسبة كبيرة جداً بين المتعلمين وخريجى الجامعات بمختلف مستوياتهم، وهذا هو دور التليفزيون الذى تراجع عنه، وإذا كان المجتمع يواجه أعاصير من التزمت والتشدد، ويعانى موجات من التحريم والتكفير للفنون والثقافة، فعلى التليفزيون أن يواجه عملياً ذلك كله، فإذا كان هناك من يقول بتحريم الغناء فأفضل رد عليه هو عرض حفلات أم كلثوم وعبدالوهاب، ولا أفهم كيف ارتضى التليفزيون أن ينسحب من هذه المهمة ويتقدم باستقالته.. هل هو العجز أم غياب الوعى أم المهادنة للأصوليين؟! قنوات إخبارية عربية عديدة، الخبر والسياسة ألفها وياؤها، ومع ذلك لا تخلو قناة منها من برنامج ثقافى على الأقل، ولا تغيب الثقافة والفنون عموماً عنها، أما قنواتنا فتتسع لبرامج الشعوذة وتغييب العقل، وتضيق حصرياً عن البرامج الثقافية والفنية. حاول أن تفتش فى كل القنوات عن برنامج يقدم الثقافة العلمية، ويقرب أحدث النظريات العلمية للمشاهد البسيط، فلن تجد شيئاً من هذا بالمرة، ورحم الله حامد جوهر، وأمد فى عمر د. مصطفى محمود. أخشى أن تكون وزارة الإعلام ورئاسة التليفزيون مكتفيتين بالقناة الثقافية، عن تصور أن كل المشاهدين سوف يذهبون إليها ويتابعونها، وجمهور هذه القناة محدود، الجمهور الأكبر يذهب للقناتين الأولى والثانية، فضلاً عن أن القناة الثقافية نفسها تقاطع أم كلثوم وعبدالوهاب، لسبب لا نفهمه حتى الآن. حالة الكراهية للثقافة وللفنون فى التليفزيون المصرى، تفقده الكثير من دوره وتسحب الكثير من ريادته ومن رصيده، فهذا الجهاز هو الذى قدم للمشاهدين العقاد وطه حسين وزكى نجيب محمود ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم، وبات من الضرورى مواصلة ذلك الدور وإنهاء الكراهية والقطيعة للثقافة وللفنون الرفيعة على الشاشة المصرية!