يتصور البعض أنه تم تتويج أحمد شوقى أميراً لشعراء العربية بإجماع نقدى بلا منازع شعرى، والحقيقة غير ذلك فمثلما كثر مبايعوه فقد كثر معارضوه أميراً للشعراء. ومهما يكن من أمر فإن هناك معركة حامية بين المؤيدين والمعارضين حتى إن هذه المعركة لم تهدأ بعد مبايعة أحمد شوقى أميراً للشعراء بل ظلت مضطرمة الأوار إلى أن شاء الله لها أن تنتهى، وفى واقع الأمر فإنها لم تنته حتى بعد موت شوقى حتى إن البعض رأى أن حافظ إبراهيم شاعر النيل والند الشعرى القوى لأحمد شوقى كان أحق بهذه الإمارة، ولعل شاعرا لم تدر حول شعره كل هذه المساجلات ولم يلق هذا القدر من الهجوم مثل شوقى وقدراً من أسباب الهجوم لا يخلو من كونه شاعر السراى. كما أن شوقى كان صاحب سيف وذهب وكان حلقة الوصل وسفير الخديو إلى أصحاب القلم، كما كان شاعر الأمير إلى أن نفى فى أوائل الحرب العالمية الأولى فلما عاد تحرر من سلطان القصر غير أن رأى خصومه فيه ظل كما هو رغم ما طرأ عليه من تحول وتحرر من سلطان القصر. وممن هاجموه وشككوا فى أحقيته بإمارة الشعر كان المازنى والعقاد وطه حسين ثم ما لبث أن هاجمه هيكل رغم أنه دبج له مقدمة «شوقياته» فلما حميت الحملة على شوقى آثر ألا يقف فى مهبها تفادياً لمغبتها وإيثاراً للسلامة، ورغم أن طه حسين والمازنى غيرا رأيهما فى شوقى فإن العقاد ظل ثابتاً على موقفه ورأيه فى شوقى وشعره. ويذكر أن هيكل قبل انقلاب رأيه فى شوقى كان قد خصص عدداً استثنائياً فى جريدة السياسة فى شكل ملف عن شوقى إثر تتويجه أميراً للشعراء فى دار الأوبرا الخديوية القديمة عام 1927م ومهما يكن من أمر فإننا هنا نعرض لمقالات ثلاثة فى هذا السياق، الأول لزكى مبارك وهو مقال متحفظ لا يتضمن مدحاً ولا قدحاً وآخر للعقاد وثالث لهيكل. هيكل: شاعر اللاأخلاق علمت أن شوقى بك لفق بعض أخبار عن السياسة ومحرريها وانطلق وأطلق جماعة من صبيانه يذيعونها فى القهاوى وفى الطرقات فأصغرت ذلك منه وأعرضت عنه وأبيت أن أحدثه فيه لكيلا أحرجه بأن أصارحه بهذا التدلى إلى حضيض الخلق. ولكنه لم يقف عند رواية أخباره الملفقة وإرسالها على ألسن صبيانه، بل جرت السفاهة على صفحات «نشرة» ينفق عليها لتصفق له ويدير تحريرها باسم مستعار لتنال من أعراض من يحسبهم خصومه، جرت بالطعن فى أعضاء اللجنة التى كرمته باتهام أعضائها جميعاً بأنهم «أرادوا أن يتخذوا من تكريمه أداة للنصب والظهور، ويتخذوا منها إعلانا عن أنفسهم وعن سلعهم البائرة وصحفهم الخاملة»، لم يستثن منهم أحدا على كثرة عددهم كما جرت بالأسف على أن لم يتول العمل أشخاص معينون ذكر اسمى من بينهم. أنا لا أستطيع أن أجد لهذا التطور العجيب مبرراً من روية أو تفكير وإنما هو إسلام النفس للبطانة من الصبية فبعد ما كان شوقى يقدر بنفسه ما فى إصدار جريدة كالسياسة الأسبوعية لعدد خاص من التكريم وسوس إليه الصبية الملقون أنهم لا يرضون عن أن ينتقد، ويعتبرون أى نقد فى حضور رجال الأدب من مختلف بلاد الشرق العربى جناية على مجده تكاد تثله ففزع ثم اضطرب ثم لفق ثم جاء إلى الاسم المستعار. كان شوقى يضيق بالنقد بل كان لا يطيقه، أما حافظ فكان يضيق بالنقد ولكنه يطيقه، أذكر يوماً من أربعين سنة خلت كنت فيه بمنزل عبدالرازق خلف قصر عابدين، وكان فى المجلس المرحوم مصطفى عبدالرازق وأخوه على عبدالرازق وحافظ. وقد كانت بينى وبين شوقى مودة دامت عشر سنوات، وكان شوقى يضيق بالنقد ولا يطيقه ولعله كان يحسبه عيباً فى ذات أمير الشعراء كالعيب فى الذات الملكية، وكان الدكتور طه ينقد شوقى فى جريدة السياسة وأنا رئيس تحريرها وكنت التقى بشوقى كل مساء وكثيراً ما كنا نصطحب فى سيارته إلى منزلى وإنها لفى إحدى الليالى إذ قال لى: ما الذى يَقْصِدُ إليه صديقك طه من توجيه النقد إلى فى كل مناسبة، أيظن نفسه قديراً على أن يهدمنى؟ قل له إننى مجد تكوّن ومن المستحيل هدم مجد تكون وأنه ينطح بنقده صخرة لا تستجيب له. ولم أعجب لهذا الكلام، إنما كان عجبى لأن شوقى كان يسرع إلى مقاطعة من ينقدونه، ثم كان يسرع إلى استرضائهم بكل وسيلة مستطاعة. العقاد: يصنع اسمه بالتهليل كنا نسمع الضجة التى يقيمها شوقى حول اسمه فى كل حين فنمر بها سكوتا كما نمر بغيرها من الضجات فى البلد لا استضخاما لشهرته ولا لمنعة فى أدبه عن النقد، فإن أدب شوقى ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه فى اعتقادنا أهون الهيئات، ولكن تعففنا عن شهرة يزحف إليها زحف الكسيح، ويضن عليها من قوله الحق ضن الشحيح، وتطوى دقائق أسرارها ودسائسها على الضريح، ونحن من ذلك الفريق من الناس الذين إذا ازدادوا شيئًا بسبب يقنعهم لم يبالوا أن يطبق الملأ الأعلى والملأ الأسفل على تبجيله والتنويه به فلا يعنينا من شوقى وضجته أن يكون لهما فى كل زفة، وعلى كل باب وقفة. فإذا استطاع أن يقحم اسمه على الناس بالتهليل والتكبير والطبول والرموز فى مناسبة وغير مناسبة وبحق أو بغير حق فقد تبوأ مقعد المجد وتسنم مقعد الخلود، وعفاء بعد ذلك على الإفهام والضمائر وسحقا للمقدرة والإنصاف، وبعدا للحقائق والظنون، وتبا للخجل والحياء، فإن المجد سلعة تقتنى ولديه الثمن فى الخزانة وهل للناس عقول. ومن كان فى ريب من ذلك فليحققه فى تتابع المدح لشوقى ممن لا يمدح الناس إلا مأجورا فقد علم الخاصة والعامة شأن تلك الخرق المنتنة تعنى بها بعض الصحف الأسبوعية، وعرف من لم يعرف أنها ما خلقت إلا لسلب الأعراض والتسول بالمدح والذم، وأن ليس للحشرات الآدمية التى تصدرها مرتزق غير فضلات الجبناء وذوى المآرب والجزازات، خبز مسموم تستمرئه تلك الجيفة التى تحركها الحياة لحكمة كما تحرك الهوام وخشاش الأرض فى بلد لو لم يكن فيه من هو شر منه لماتوا جوعا أو تواروا عن العيون. هذه الصحف الأسبوعية وهذا شأنها وتلك أرزاق أصحابها تكيل المديح جزافا لشوقى فى كل عدد من أعدادها وهى لا تنتظر حتى يظهر للناس بقصيدة تؤثر، أو أثر يذكر. بل تجهد نفسها فى تمحل الأسباب واقتسار الفرص، فإذا ظهرت له قصيدة جديدة وإلا فالقصائد القديمة فى بطون الصحف، وإن لم يكن شعر حديث ولا قديم فالكرم والأريحة والفضل واللوذعية. إن امرأ تبلغ به محنة الخوف على الصيت هذا المبلغ، لا يدرى مم يستكنف فى سبيل بغيته وأى باب لا يطرقه تقربا إلى طلبته والحق أن تهالك شوقى على الطنطنة الجوفاء قديم عريق ورد به كل مورد وأذهله عما ليس يذهل عنه بصير أريب، وليس المجال بمنفسح للتفصيل ولا الفرصة سانحة لجلاء الغوامض. المازنى: ليس بشاعر ليس شوقى عندى بالشاعر ولا شبهه، وإنه لقطعة قديمة متلكئة من زمن غابر لا خير فيه، يغنى عنه كل قديم ولا يضيف هو إلى قديم أو حديث، وما أعرفنى قرأت له شيئًا إلا أحسست أنى أقلب جثة ملئت صديدا وشاع فيها الفناء علوا وسفلا، وعسى من تستفظع هذا ويرى فيه غلوا. ولهذا يقول إن مقياسنا كان ولازال، أن الجيد فى لغة جيد فى سواها والأدب شىء لا يختص بلغة ولا زمان ولا مكان لأن مرده إلى أصول الحياة العامة لا إلى المظاهر والأحوال الخاصة العارضة، فمن كان يكابر بالخلاف فى أن شعر شوقى كما نصف، فما عليه إلا أن يتناول خير ما يذكر له وأبرعه فى رأى أنصاره ثم فلينقله إلى لغة أخرى ولينظر بعد ذلك مبلغه من الفساد والاضطراب والاعتساف والشطط والسفه والغلو والخلو من الصدق والعجز عن صحة النظر. وليت شوقى لا يسمو عن المطروق والمألوف والمبتذل، إذن لكانت على الأقل مزية الفطنة إلى ما كانت له فى زمنه طلاوة الجدة فإن المطروق اليوم كان مبتكرا بالأمس، وإنا لنمط شفاهنا الآن إذا نرى كاتبا أو شاعرا يشبه وجه الحبيب بالقمر أو غيبته بالنجوم. والمرء إما أن يكون شاعرا أو لا يكون ولا وسط هناك، أفإن كان شوقى عندكم شاعرا فقيسوه إلى شعراء الدنيا من مثل شكسبير وجوتيه وملتون وهاردى ودانتى. فإن لم يقف به مكانه بينهم فهو ما زعمتم، وإلا فاعلموا أن الشعر ليس الوزن والقافية وأن من أول خصائصه قدرته على النقل ولسنا نعنى المقدرة على التصوير بالألوان بل تناول الأشياء بحيث يوقظ هذا التناول فى نفس القارئ إحساسا تاما قويا بالشىء وبصلتك به. لا سيدى هيكل بك: هذه معابثة لا مطايبة فيها تقيمون كل هذه الضجات والضوضاء حول شوقى وتحفونه بالزمر والطبل فى أرجاء المعمورة كلها ثم تعمدون إلى رجل خفيض الصوت مثلى تدعونه إلى أن ينهض وسط هذه الزفات المجلجة ليفضى إليكم برأيه الصريح.