إنه ذلك العالم المصرى الفذ، الموسوعى المعرفة، المستقبلى النظرة، الذى ارتبط اسمه بعلوم «الهندسة الوراثية»، وهو الأستاذ الجامعى المرموق المتخصص فى العلوم الزراعية، الذى يعتبر أستاذًا لجيل كامل من المتخصصين فى الدراسات الحديثة وشؤون المستقبل، وقد كان أول من بشَّر بالحادث العلمى الضخم المتصل بعملية «الاستنساخ» ونتائجه المذهلة، وأشهد أن الرجل كان معنيًا بوطنه وظروفه الصعبة، وكان مهمومًا بمستقبل الأجيال القادمة ويفكر فى مشكلات الغذاء والتربة والمياه والمناخ فى وقت واحد، فلقد كانت ميزة «أحمد مستجير» أنه ليس مجرد عالمٍ أصم، ولكنه كان يضرب فى كل جوانب المعرفة الإنسانية بسهم، فهو أديبٌ ومفكر وشاعرٌ وفنان، بالإضافة إلى أنه كان باحثًا جادًا وعالمًا واسع الاطلاع، وقد عُنى بالدراسات المستقبلية وفهم جيدًا أن الغد يولد من رحم اليوم، مثلما أن اليوم هو نتاجٌ للأمس، وقد كرمته بلاده بأعلى جوائزها العلمية وذاع اسمه دون أن يسعى إلى ذلك، وعلت مكانته إقليميًا ودوليًا بسبب أبحاثه الناجحة وكتاباته التى تعتبر إسهامًا حقيقيًا فى الثقافة العلمية الحديثة، وقد ربطتنى بهذا العالم الجليل صداقةٌ طويلة، فقد كان حديثه ممتعًا وكانت آراؤه سابقة لعصره ومازلت أتذكر وأنا سفيرٌ لمصر فى «فيينا» ذلك الصباح البارد عندما دخل إلى مكتبى بمبنى السفارة د.أحمد مستجير قائلاً إنه يمر بالعاصمة النمساوية لأيامٍ قليلة ويعيش خارج «فيينا» لدى أصهاره، فقد كان رحمه الله مقترنًا بزوجته النمساوية الفاضلة التى شاركته مسيرة الحياة ورحلة الكفاح، وقد قال لى يومها إنه اغتنم فرصة وجوده لكى يمرَّ علىَّ بمبنى السفارة وقد كان الحديث بيننا ممتدًا وشاملاً واستمتعت بأفكاره وأخباره على نحوٍ بدد قتامة الجو ورداءة الطقس، ولقد اكتشفت يومها أنه قد قطع أشواطًا فى الدراسات المستقبلية وأصبح قاب قوسين أو أدنى من تحقيق تجارب علمية ناجحة، وقد كان هدفه هو أن يوفِّر الطعام لكل فم مصرى، معتمدًا على أبحاثه فى الهندسة الوراثية، وتحقيق أقصى درجات الاستغلال للرقعة الزراعية المحدودة فى الدلتا وشريط الوادى الضيق، لذلك اقتحم الميادين الفكرية الجديدة فكان رائداً فى فروع المعرفة الحديثة يبشر بالتحولات العلمية الكبرى، مختلفاً عن زملائه ومعاصريه، مرتبطاً بتلاميذه ومريديه، وقد أتاح له وجود زوجته النمساوية فى حياته فرصة رؤية العالم من منظور أوسع، مع احتكاك أكبر بالعقليات الأجنبية المستنيرة فى فروع العلم المختلفة، ولقد صدرت له دراسات وأبحاث ضمتها كتبه المختلفة بين مجالات العلم والأدب والمعارف الإنسانية، وعندما رحل عن عالمنا منذ سنوات قليلة فجعت فيه الأوساط العلمية ونعته الدوائر الأكاديمية، لأنه كان رمزاً شامخاً لعالم أكاديمى وظف ما حصل عليه من معرفة فى خدمة أبناء وطنه وتحسين مستوى المعيشة فيه، ولعل أروع جوانب حياته هو رؤيته السياسية للمستقبل، فقد كان مفكراً نادراً يستطيع أن يعكس التطور العلمى فى صورة أدبية جذابة وبساطة معرفية نادرة، وأنا أريد أن أقول هنا إن الرجل الذى ظل طوال حياته بعيداً عن الصخب والضجيج هو نفسه ذلك العالم الذى وضعته أبحاثه فى بؤرة الاهتمام وجعلت منه نموذجاً فريداً تقتضى به الأجيال، والغريب أن كليات الزراعة معطاءة بالطبيعة فتخرجت فيها أجيال العلماء بل والأدباء والفنانين أيضاً، ولعل الناس لا يعرفون أن رئيس الوزراء الأسبق «كمال الجنزورى» خريج كلية الزراعة، كذلك أيضاً فإن الفنانين «عادل إمام» و«صلاح السعدنى» وحاكم إمارة الشارقة ومعهم كوكبة ضخمة فى فروع الحياة المختلفة كلهم من خريجى كلية الزراعة، وذلك يؤكد فى نظرى وحدة المعرفة الإنسانية وتكامل أطرافها.. رحم الله «أحمد مستجير»، الذى نتذكره دائماً كلما ازدادت مخاوفنا من المستقبل ومتاعبنا فى الحاضر ومشكلاتنا الموروثة من الماضى.