المكان: جامعة تل أبيب، قسم تاريخ الشرق الأوسط. الزمان: الأسبوع الأخير من شهر يوليو الجارى. أعداد كبيرة من الطلبة تستعد لأداء امتحان نهاية العام فى مادة «تاريخ الرؤساء والزعماء العرب» التى يدرّسها البروفيسور «إيال زيسار»، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بالجامعة، وصاحب كتاب «باسم الأب.. بشار الأسد يحكم سوريا». المادة عبارة عن رؤية إسرائيلية لتاريخ الرؤساء فى العالم العربى بدءاً بمصر، مروراً بالعراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين. تسير المحاضرات بوتيرة ثابتة، منذ سنوات.. المحاضرة الأولى عبارة عن مقدمة تاريخية عن العالم العربى، وعدد سكانه، وتركيبته الاجتماعية، ثم تنتقل المادة الدراسية للحديث عن التاريخ السياسى لمصر فى ثلاث محاضرات متتالية، يجمعها عنوان رئيسى واحد: «رؤساء مصر منذ ثورة يوليو 1952». يبدأ البروفيسور «إيال زيسار» محاضرته المطبوعة بقوله: «تتمتع مصر بدور مركزى فى العالم العربى. وهناك من يقولون إنها العالم العربى كله. ذلك بالرغم من تراجع مكانتها حاليا، لكن المؤكد أنها ما زالت تملك العنصر البشرى الذى يمثل سر تفوقها. ومازال الأكاديميون المصريون، على سبيل المثال، يقومون بالتدريس فى جامعات العالم العربى من أقصاه إلى أقصاه». ويضيف «زيسار» تحت العنوان الجانبى: «الرؤساء المصريون بعد ثورة الضباط الأحرار»: «فى عام 1952 قامت مجموعة من الضباط الشبان ب(انقلاب عسكرى) ألغى النظام الملكى. ومنذ ذلك الوقت عرفت مصر ثلاثة رؤساء أقوياء هم: ناصر والسادات ومبارك. وكان عبدالناصر زعيماً كاريزمياً، استوطن قلوب المصريين. وربط مصر بالقومية العربية، وطبق الاشتراكية، ودخل فى حرب شعواء ضد إسرائيل. وجاء من بعده السادات الذى حاول النيل من صورة سلفه دون جدوى. فما زال عبدالناصر، رغم وفاته، يحظى بشعبية فى مناطق كثيرة من العالم العربى. ويمكننا أن نقول، بأثر رجعى، إن عبدالناصر لم يكن المسؤول الوحيد عن استمرار الصراع بين مصر وإسرائيل، فقد سعت تل أبيب، دائما، للتحرش به، وكان بن جوريون يخاف من ظهور زعيم يوحّد صفوف العرب على غرار كمال أتاتورك فى الأناضول». «إيال زيسار»، الذى يتولى حالياً رئاسة مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا، يختم محاضراته سنويا بالتأكيد على أن كتابة التاريخ قضية شائكة. ومن الأفضل كتابة تاريخ الحكام بعد وفاتهم، لكن فى إسرائيل، لا يوجد متسع من الوقت. وينبغى على المؤرخ كتابة التاريخ وقراءته، أولاً بأول، للاستفادة منه فى استشراف مستقبل الصراع العربى الإسرائيلى، وحاضره. وفى هذه الصفحة، نستعرض ملخصاً للمحاضرات التى يلقيها «إيال زيسار»، عن تاريخ رؤساء مصر، على طلبة قسم التاريخ بجامعة تل أبيب. عبدالناصر.. زعامة و«صراع وجود» تحمل المحاضرة الأولى ل»أيال زيسار» عن تاريخ رؤساء مصر عنوان: «قادة ثورة يوليو- جمال عبدالناصر». ويبدأها بالتأكيد على وجود عدد من المداخل الأكاديمية الإسرائيلية لدراسة شخصية عبدالناصر. فهناك من يراه زعيماً منظماً امتلك رؤية عروبية واضحة. لذلك اتسع فى عهده الدور الذى لعبته مصر فى الصراع العربى- الإسرائيلى. وبادر بتطبيق النظام الاشتراكى، مما جره لمواجهة مع الأمريكان، وإسرائيل، وعدد من الأنظمة العربية. وفى المقابل، يرى بعض الأكاديميين الإسرائيليين أن عبدالناصر لم يكن زعيماً مبادراً، بل فرضت عليه الظروف أن يتخذ ردود أفعال طوال الوقت. ويقسم «زيسار» عهد عبدالناصر إلى فترتى الخمسينيات والستينيات، موضحاً أن القيادة الإسرائيلية فى تلك الفترة كانت تعتبر عبدالناصر عدواً يرى أن إسرائيل فازت فى معركة، ولم تنتصر فى الحرب، لأن الصراع بين العرب وإسرائيل هو صراع وجود. لذلك تبنت الحكومات الإسرائيلية منطق الهجوم على نظام عبدالناصر بدلا من انتظار قراره بالحرب. وانتهز بن جوريون يخشى من محاولات عبدالناصر لتوحيد صفوف العرب، وإلزامهم بمحاربة إسرائيل، وكان يعتقد أن عبدالناصر قد ينجح فى تكرار تجربة كمال أتاتورك فى الأناضول. وتستعرض المحاضرة تفاصيل الصراع العربى الإسرائيلى فى عهد عبدالناصر، ويتخللها شرح لأسباب فشل تجربة الوحدة مع سوريا. وفى نهاية المحاضرة يركز «زيسار» على الشعبية التى حققها عبدالناصر لدى الشعوب العربية باعتباره رئيساً شاباً وشجاعاً وثورياً، آمن بالقومية العربية. وحاول بناء جيش مصرى قوى وعصرى. السادات.. الفرعون الذى «تمسكن حتى تمكن» فى المحاضرة الثانية بعنوان «الرئيس السادات»، يؤكد «زيسار» أن المخابرات الإسرائيلية لم تتوقع أن يحكم السادات مصر بعد رحيل عبدالناصر. لكن القيادات الناصرية فى ذلك الوقت، اختاروه لكى يحكموا مصر من خلاله. ولم يمر عام واحد حتى انقلب عليهم السادات، وألقى بهم فى المعتقلات. وانفرد بالحكم. وقد أخطأت المخابرات الإسرائيلية فى تقدير الموقف لأن السادات بدا لهم شخصا هامشيا. أسند له عبدالناصر مناصب غير مهمة. لكن السادات نجح فى البقاء فى الصورة، ربما لأن الرئيس لم يشعر أبدا أنه مصدر للخطر. وأدى السادات دوره بمنتهى البراعة، حتى حانت اللحظة المناسبة، وتولى الرئاسة، فنزع القناع. وقد انقلب السادات على تراث عبدالناصر، فقطع العلاقات مع السوفيت، وتواصل مع الغرب، وألغى النظام الاشتراكى، وسافر إلى القدس، وعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل. ولم تفشل المخابرات الإسرائيلية وحدها فى قراءة السادات، فقد فشل المقربون منه أيضا فى توقع خطوته القادمة، لكن المؤكد أن حرب 73 تعتبر حدثا مفصليا فى عهده، وقد حاول استغلالها فى إحداث انطلاقة داخلية، وصار مصطلح العبور يتردد بكثرة فى الحياة اليومية: كالعبور الاجتماعى والاقتصادى والسياسى. لكن المصريين لم يعتبروا اتفاقية السلام مع إسرائيل، نجاحا عظيما. والتصق بالسادات لقب: «الرجل الذى باع مصر». وعلى الرغم من الشعبية التى حققها السادات فى إسرائيل والغرب، فإنه تعرض للاغتيال على أيدى الجماعات الإسلامية التى لقبته ب»الفرعون المستبد». وقد عاش السادات آخر سنوات عمره فى عزلة وإحباط، واضطر لتقليص هامش الحريات، وعند وفاته حزن الإسرائيليون لاغتياله، ولم يخرج الشعب المصرى بمئات الآلاف فى جنازته كما حدث إثر وفاة عبدالناصر. مبارك.. ابن البيروقراطية المصرية فى المحاضرة الثالثة والأخيرة بعنوان «مدخل لدراسة شخصية مبارك»، يذهب «أيال زيسار» إلى أن الرئيس مبارك، قائد سلاح الطيران المصرى فى حرب أكتوبر، هو ابن البيروقراطية المصرية، خدم فى الجيش، وترقى حتى وصل لأرفع المناصب، واختاره السادات نائبًا له، عندما قرر إحاطة نفسه بالضباط الشبان الذين ساهموا فى تحقيق نصر أكتوبر. وقد ورث الرئيس مبارك من السادات دولة يقاطعها العالم العربى، وتعانى من توتر بالغ بين النظام وقوى المعارضة، علاوة على التوترات الطائفية، ونجح مبارك بمرور الوقت فى تحقيق الاستقرار، وإعادة العلاقات بين مصر والعالم العربى، وساعده فى ذلك اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، ومساندة القاهرة لبغداد فى حرب الثمانى سنوات. كان مبارك، فى البداية، حلاً نموذجياً للمشكلات المصرية التى تراكمت فى عصر السادات، وبدأ قراراته الرئاسية بإيقاف حملات المطاردة الأمنية لقوى المعارضة، لكن السياسة ديناميكية لا تعرف الثبات، فالمواطن المصرى يشعر اليوم بالإنهاك، خاصة أن القيادات الحاكمة لا تتغير رغم مرور السنين. وجاء مبارك ولم يقدم حلولًا اقتصادية، فتفاقمت المشكلات. ولم يقدم رؤية متسقة لشخصية مصر، مما فتح الباب أمام ظاهرة أسلمة المجتمع فى اتجاه معاكس لعمليات العلمنة، التى قادها المثقفون المصريون فى العهود السابقة. وفى نهاية محاضرته عن الرئيس مبارك يتطرق «أيال زيسار» لمسألة التوريث ويقول: «إن التوريث لو حدث قد يسبب مشكلات كثيرة، خاصة أن مصر هى البيروقراطية عندما تتجسد فى دولة، وفى مثل هذه التركيبة يصعب توريث الحكم، ما لم تتوافق جميع مراكز القوى وجماعات النفوذ على اسم المرشح».