بناء على توصيات لجنة مكافحة أنفلونزا الطيور، ألغت محافظة القاهرة الاحتفال بمولد السيدة زينب رضى الله عنها هذا العام. وفور القرار سارعت الحكومة إلى الدخول فى معركة مع مريدى الطرق الصوفية من «حبايب الست» من أجل نزع الخيام التى يقومون بنصبها- بحوارى وأزقة الميدان- ليقيموا فيها فترة الاحتفال بالمولد، وحدثت مناوشات ما بين الجانبين، وقد تتحول هذه المناوشات إلى معارك حقيقية يوم الثلاثاء القادم، وهو يوم الاحتفال بالليلة الكبيرة للمولد الزينبى، خصوصاً أن أتباع الطرق الصوفية بالملايين، كما أن لمولد السيدة زينب مقاما خاصا عند المصريين، بسبب ارتباطهم بهذه السيدة المناضلة العظيمة التى لملمت جراحات آل بيت النبى صلى الله عليه وسلم بعد معركة كربلاء التى شهدت مقتل الحسين بن على رضى الله عنهما. وقد ابتهج الكثير ممن يرفضون فكرة الموالد أصلاً - مع حبهم وتقديرهم لآل البيت بالطبع - بالقرار ابتهاجاً عظيماً، وحيوا الحكومة التى تريد تحرير الإسلام من الخرافات على قرارها، لأنهم يرون أن زيارة الأولياء والتبرك بالأضرحة ليسا من الإسلام فى شىء، يضاف إلى ذلك ما يحدث فى الموالد من عبث وانتهاك لبعض الحرمات، مما لا يرضى عنه مسلم. وأتصور أن تقييم ظاهرة الموالد فى مصر- من المنظور الدينى- يحمل هذا الموضوع أكثر مما يطيق. فالمسألة فى وجدان المصريين لا تتعدى حد الطقوس المتوارثة التى تشيع البهجة فى الحياة، وتثير الطمأنينة فى النفس، ولو كان الاحتفال منبعه الدين لما وجدنا المسلمين المصريين يحتفلون ويتبركون بالقديسين فى الكنائس. إنها الروح المصرية التى تبحث عن البهجة والاطمئنان فى زحمة الناس. وهذا بالضبط ما يحدث فى مولد السيدة زينب رضى الله عنها، وغيره من الموالد، حيث يمتد الطعام على الأرض وفوق الموائد، وتنصب حلقات الذكر والإنشاد، وتنتشر الألعاب الترفيهية، وينخرط الناس فى حالة من حالات الصراخ الجماعى، أو الأكل الجماعى، أو حتى التلاصق الجماعى، لتبدأ النفوس فى إخراج أشكال الكبت والضغط الذى تعانى منه. فالموالد تعبير عن حالة نفسية، أكثر من كونها تعبيرا عن حالة دينية، فأى مسلم بسيط من أعماق الريف المصرى يعلم أن الإنسان يحاسب على عمله يوم الدينونة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ويوقن بذلك أشد اليقين، أما لجوؤه إلى أولياء الله فيكون لمسائل معيشية بحتة، ولقضاء حاجات دنيوية يتراخى المسؤولون- عن شؤون دنياه- عن الاستجابة لها. وعندما يقصر رؤساء الدنيا فى أداء دورهم فمن البديهى أن يلجأ البعض إلى رئيسة الديوان، وهو اللقب الذى يطلقه المتصوفة على السيدة زينب. فالمواطن هنا لم يتعلم أن عليه أن يستعين بالله، وبعمل عقله، وبجهد يده، من أجل الحصول على حاجاته ممن يحرمه منها. والذنب هنا ليس ذنبه، بل ذنب الدعاة والمثقفين الذين يلقنونه ثقافة التراخى والاسترخاء، فما الفارق بين فكرة احتفاء المواطن البسيط بأولياء الله من أجل «تخليص« حاجاته، والمثقف المتدين الذى يلقن غيره فكرة أن عليه أن ينتظر «المخلص» الذى يبعثه الله على رأس كل مائة عام ليجدد لهذه الأمة شبابها، ولا يجتهد هو أى اجتهاد؟. وعلينا ألا ننسى أن الحكومة التى اتخذت قراراً بإلغاء الموالد هذا العام، هى التى كانت تشجع الناس على الاحتفال بها طيلة الأعوام السابقة، بل وكانت تغرقهم فى طقوس وممارسات الموالد حتى النخاع لكى «تلهيهم» عن «الخيبة القوية» التى يعيشون فيها. وقد تركت الحكومة الباب مفتوحاً للجماعات الصوفية- مع احترامنا للصوفية- لكى تزيد أعداد مريديها بالملايين، لأنهم لا يصدعون «راس» الحكومة، كما تفعل جماعات أخرى، بل يتولون علاج أنفسهم بأنفسهم، من خلال هذه الطقوس النفسية التى تحررهم من الشعور بضغط المشكلات التى يتسبب فيها مسؤولوها، فالحكومة لا يهمها وجود انحراف عقائدى لدى البعض، أو ارتكاب بعض الحماقات من جانب البعض الآخر، فى الموالد أو غيرها!. ويبدو أن الحكومة فكرت بنفس الطريقة التى يفكر بها الكثيرون عندما اتخذت هذا القرار، وبدأت تنظر إلى الأمر- من منظور دينى- وترى أن الاحتفال بالموالد، وزيادة أعداد الصوفيين تهدد الإسلام السنى فى مصر!. فربط إلغاء الاحتفال بالمولد الزينبى بالزحام الذى قد يتسبب فى انتشار مرض أنفلونزا الطيور لا ينهض بالفعل كسبب موضوعى للقرار. فالمرض لم يتحول بعد- بحمد الله- إلى وباء، كذلك فهل يمكن أن تلغى الحكومة مباراة كأس السوبر القادمة بين الأهلى وحرس الحدود بسبب التزاحم الجماهيرى، خصوصاً فى ظل الحديث عن عدم إذاعة المباراة على الهواء؟!، وهل سوف تلغى الدورى العام وتؤجل الدراسة بالمدارس والجامعات خلال العام المقبل؟!، وهل ستلغى رمضان هذا العام، أو على الأقل تلغى صلاة التراويح داخل بعض المساجد التى يتزاحم فيها المصلون؟!. إن ما أخشاه حقاً أن تكون الحكومة قد بدأت الدخول فى مواجهة مع الطرق الصوفية من منطلق أنهم أكثر المصريين المؤهلين لتبنى أفكار المذهب الشيعى، بسبب حبهم لآل بيت النبوة، رغم أن حب السنة لعترة النبى لا يقل عن حب الشيعة، ورغم أن مصر سبق لها أن نفضت المذهب الشيعى بعد رحيل الفاطميين الذين حكموا مصر عشرات العقود. إن ذلك يعنى أن الحكومة التى كانت تفخر بقوتها أمام شعبها أصبحت ضعيفة ورخوة، وتحيا مثله فى الوهم، فإذا كان المصريون البسطاء يتمرغون منذ مئات السنين فى وهم التبرك بمقام السيدة زينب بميدانها الشهير، رغم ما أثبتته الدراسات من أن السيدة العظيمة ليست مدفونة فى مصر أصلاً، فإن الحكومة تتمرغ الآن هى الأخرى فى وهم الخوف من الشيعة والتشيع، و«بتعمل» عقلها بعقل المواطن الذى يرى أن كلام «ديوان محافظة القاهرة» لا يجب أن «يمشى» على «رئيسة الديوان»!.