المسافة الكبيرة بين الشيء ونقيضه تعبر عنها الحكمة الشعبية المصرية بالبعد بين «السما والعمى» ويصوغها الشوام بطريقة أخرى عندما يتساءلون عن علاقة «طظ بمرحبا». وهذه هى نفسها العلاقة بين الثقافة والحزب الوطنى (الثقافة هى الطظ بالطبع، حتى لا يحاول أحد تأويل كلامى على غير ما قصدته). لم تكن للحزب الوطنى علاقة بالثقافة، لا منذ إنشائه ولا منذ بدء مؤتمراته السنوية، التى لا نلمح فى برنامجها أو مناقشاتها العابرة أو توصياتها كلمة حول الثقافة، ولو من وراء القلب كالكلمات عن الفقر والفقراء مثلا، التى تملأ بالسواد صفحات التقارير وشاشات الكمبيوتر وأيامنا. وكان المثقفون سعداء بذلك البعد، سعداء بأن مرحبا الحزب الوطنى لا تتدخل فى طظهم. وعلى الرغم من أن الثقافة بألف عافية بدليل ما يحدث فى مصر الآن من احتقان طائفى وتدين شكلى ورثاثة فى الذوق على كل المستويات، إلا أن البعد عن الحزب الوطنى ولجنة المستشرقين الشباب كان أفضل ألف مرة من انتباههم إلى الثقافة والتراث الثقافى. وشخصياً يصيبنى الغم كلما ارتدى الدكتور زاهى حواس برنيطته الشهيرة واتخذ وضع التصريح للإعلان عن كشوف أثرية جديدة، حيث لا يضمن أحد مصير ما يخرج من باطن الأرض. ومن الأفضل أن يظل القدر الأكبر من آثارنا مطموراً تحت التراب إلى أن يأتى الله بقوم تحبهم مصر ويحبونها، ويمكن على أيديهم أن نعرف أين تبدأ وأين تنتهى عصابات الآثار وفضائحها الكبرى. ولكن لجنة السياسات لا تأتى دائماً بما يشتهى المواطن. وبعد أن قلّبت «المرحبا» سطح الأرض ورأت أنه لم يعد يستحق العناء إذا بها تحاول تقليب باطنها، من خلال مشروع قانون جديد للآثار أطلق حالة من الفزع بين المثقفين بما يتضمن من مواد تتيح الاتجار فى الآثار وبمدة السنتين اللتين يمنحهما لحائزى القطع الأثرية لتسجيلها قانونياً، الأمر الذى قد يجعل تجار الحديد والحضيض والحشيش وبناة المدن المسورة المذعورة والمتأففة يغيرون نشاطهم ويتحولون إلى التنقيب عن الآثار. ولا يحتاج المرء لكثير من الفطنة لكى يدرك هول المشروع المعروض على مجلس الشعب؛ فيكفى أنه جمع فى معارضته بين وزير الثقافة فاروق حسنى وأمين عام هيئة الآثار زاهى حواس. اتفق الشتيتان وقد ظنا ألا يتلاقيا، واجتمعا مع المصريين على رفض مشروع عز للآثار! المرجعية فى هذا المشروع كالعادة مرجعية غربية، فهكذا يفعلون فى إيطاليا. وهذا مبرر كاف لأمين التنظيم بالحزب الوطنى لكى يقترح تنظيماً جديداً لحيازة وبيع الآثار المصرية، انقلاباً على عشوائية البيع السعيدة. لم ينظر الأمين إلى أى فرق بيننا وبين إيطاليا، لا على صعيد نوعية الآثار وعمرها ولا على صعيد حجم المجهول منها فى باطن الأرض، ولا على صعيد مستوى الجهاز الإدارى وتطور عمليات التأمين والرصد، ولا حتى على صعيد الفساد السياسى وتشبيكاته مع العصابات هنا وهناك، حيث تختلف طظ المافيا الإيطالية التى تسرق علنا بالإكراه، عن مرحبا السمسرة وألعاب الثلاث ورقات فى العصابات الاقتصادية المصرية. مأزق القياس الخاطئ على الغرب هو ما يعانيه المصريون دائماً فى التفاهم مع مستشرقى الحزب الوطنى الذين يحفظون أسعار لتر البنزين فى أوروبا وأسعار متر الماء، ولكنهم لا يكادون يفقهون حديثنا عندما نطالبهم بالمستويات الأوروبية فى الدخل وكرامة الإنسان والتعليم وأمان الضمان الصحى والاجتماعى. المثير فى هذا المشروع أنه الأول الذى له علاقة بالثقافة، وقد جاء من باب التجارة أيضاً وأيضاً. لم تقدم لجنة السياسات من قبل ما يطمئن المصريين على علاقة حسن الجوار بين الطظ والمرحبا، حيث لم يسبق لهذه اللجنة أن تدخلت بمشروع قانون، أو ساهمت فى إجراء حكومى لمنع العدوان على الآثار. لم تر اللجنة ولا حزبها ولا حكومتها الأبراج التى ترتفع أمام القلعة ونصرخ منها طوال سنوات العمل، واستمرت لعبة الثلاث ورقات من قيادات وزارة الثقافة فى مواجهة تحذيرات واستغاثات اليونسكو، حتى صارت الأبراج أمراً واقعاً، سوف يدمر باختلافه المعمارى المشهد البصرى لمنطقة آثار القلعة بتوابعها شمال وجنوب الطريق، ولن يكتمل المشروع حتى تكون أعمال الإنشاءات قد دمرت توازن التربة الهشة وجهزتها للتدمير الشامل بفعل مياه الصرف وثقل المبانى والسيارات.