حقيقة علينا أن نحيى تلك العقول العبقرية القادرة على اختراع عبارات جميلة الوقع على الأذن حين نسمعها، فارغة من المعنى حين نفكر فيما تدل عليه. وآخر مولود فى هذه الفصيلة هو عبارة «التمييز الإيجابى» التى تكررت على ألسنة البعض لامتداح وتبرير وتزيين قرار مجلسى الشعب والشورى بالموافقة على تخصيص 64 مقعداً ملاكى للمرأة المصرية فى المجلس الموقر. فالعبارة لطيفة تذكرنا بعبارة «الحياد الإيجابى» التى اخترعناها فى الستينيات، لكنها فارغة من أى معنى. فكيف يمكن أن يكون تمييزا وإيجابياً فى الوقت نفسه، إلا أن يكون تمييزاً مخنثاً، أى يجمع بين صفات المذكر والمؤنث؟!. والحديث عن ضرورة تخصيص مقاعد خاصة للنساء فى المجالس التشريعية مسألة قديمة متجددة عرفناها منذ أن تم منح المرأة حق التصويت والترشح فى الانتخابات بعد قيام الثورة مع صدور دستور عام 1956، حيث بدأ النظام السياسى آنذاك فى مشوار محاربة الذكورة التى تميز المجتمع المصرى، وبدأ يسعى بصورة حثيثة نحو «تأنيثه»، وأخذ يعود إلى حديقة الألفاظ المزدحمة بورود جميلة الشكل لكنها معدومة الرائحة ليستعير منها عبارات من نوع «المرأة نصف المجتمع» و«البنت زى الولد»، إلى أن انتهينا مؤخراً - بعد مشروع الشرق الأوسط الكبير - إلى ألفاظ من فصيلة «تمكين المرأة» و«تفعيل دورها فى المجتمع» و«تغيير نظرة الرجل إليها» وغير ذلك من ألفاظ نقترح معها أن يخصص باب فى النحو العربى لدراستها، يمكن أن نطلق عليه باب «تمكين وأخواتها» ليصبح جزءاً من المقرر إلى جوار «كان وأخواتها» و«إن وأخواتها»!. ويتعجب المرء عندما يلاحظ أن دستور عام 1923 - أكثر الدساتير ليبرالية فى تاريخ الحياة السياسية المصرية - لم يهتم بتمكين المرأة المصرية بهذه الصورة، بل ولم يعطها أى حقوق سياسية، وذلك على الرغم من أن لجنة الثلاثين التى تولت صياغته كانت تضم الكثير من مفكرينا وسياسيينا المؤمنين بالليبرالية. فقد اتفقوا على فكرة الذكورة السياسية التى جاءت ثورة يوليو لتنفيها، وتبرز الوجه «الأنثوى» للعمل السياسى، وكأنها أرادت أن تثبت أنها كانت أكثر ليبرالية من كل السياسيين فى مصر ما قبل الثورة!، وأن دستور عام 1956 الذى تولى صياغته المكتب الفنى لرئاسة الجمهورية أكثر ليبرالية من دستور 1923!. إن هناك فارقاً كبيراً بين الرؤية الواقعية، والرؤية التى تعتمد على الشعارات اللفظية التى تستهدف نفاق قطاعات جماهيرية معينة إرضاء لعناصر فاعلة فى الداخل أو لقوى ضاغطة فى الخارج!. والواقع لدينا يؤكد أن النسبة الغالبة من المصريات تزهد فى المشاركة فى لعبة السياسة، سواء بالترشح أو بالإدلاء بالصوت، بل وتكره أصلاً الحديث فى موضوع السياسة. وكلنا يعلم أن عزوف شبابنا عن المشاركة فى الأحزاب أو الانضمام إلى القوى السياسية التى تعمل على الساحة يرتبط فى الأساس بتوجيه الأمهات. فأشهر نصيحة تعطيها الأم المصرية لأولادها هى «مالكش دعوة بالسياسة.. خلينا فى حالنا». وتؤكد الأمهات على هذه النصيحة بسبب ما يسمعن عنه من بطش وسجن وتشريد يصيب من يمارس السياسة بعيداً عن طاعة السلطة، تلك السلطة التى أعطت المرأة حقوقها السياسية بموجب دستور 1956، وتمنحها الآن 64 مقعداً فى مجلس الشعب!. وقد كانت النتيجة أن الكثير من الرجال بدأوا هم الآخرون يعزفون عن المشاركة السياسية، وبدأوا يتفاعلون مع الأحداث السياسية بصورة « أنثوية»، أى بنفس الطريقة التى تتفاعل بها المرأة. يشهد على ذلك ضعف مشاركة الرجال فى الانتخابات وفى الانتماء إلى أحزاب، وإصرار العديد من الآباء أيضاً على تحريض أبنائهم على البعد عن السياسة والعمل السياسى ليؤكدوا أن المجتمع كله قد تم «تأنيثه». وهنا تبدو المفارقة فى الحديث عن ضرورة تخصيص مقاعد للمرأة فى مجلس الشعب لأن رجال المجلس لا يحسنون تمثيلها أو الدفاع عن حقوقها!. ودعونا نسأل «بصراحة كده وبكل وضوح»: أين هى الحقوق المهدرة للمرأة المصرية؟ وأين دورها الضائع فى صناعة القرار فى مصر؟ أين ذلك والجميع يعمل على استرضائها. ومن يراجع الكثير من تصريحات المسؤولين ببلادنا يجد أنها تعتمد على أعلى درجات النفاق عندما يتصل الأمر بالمرأة. فهل يستطيع أحد أن يشكك فى دورها أو فى قدراتها؟!، بل إن التأكيد على دور المرأة ومحوريته أصبح من أوجه النفاق المعتاد فى مجتمعاتنا، ولعلنا نذكر أن أوباما تحدث فى خطابه فى جامعة القاهرة عن أن بعض الدول الإسلامية تميزت عن الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية بوصول المرأة إلى مقعد الرئاسة، فى محاولة واضحة لدغدغة مشاعر النساء اللائى صرخن والرجال الذين صفقوا طويلاً لهذا الكلام الذى يخاطب النزعة «الأنثوية» للمجتمع!. إننا بهذه الحكاية أصبحنا أفضل من الولاياتالمتحدة التى كان يرفض الكثير من مواطنيها مسألة «تأنيث» الرئاسة عندما كانت تحاول «هيلارى كلينتون» اقتحام البيت الأبيض!. لقد شاءت الظروف أن أكون فى زيارة - مع عدد من الزملاء - للولايات المتحدةالأمريكية أثناء المنافسة المحتدمة على تسمية مرشحى الرئاسة هناك، ومن بينهم هيلارى كلينتون، وأذكر أننى سألت عدداً من أساتذة الجامعة التى كانت تستضيفنا حول مسألة وصول هيلارى إلى كرسى الرئاسة، فأكدوا جميعاً أن هذا الأمر صعب جداً لأن الكثير من الأمريكيين يرفضون فكرة أن تكون رئيستهم امرأة!. كان هذا هو كلامهم حول مسألة «تأنيث» الرئاسة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، أما هنا فالمسألة أكثر تقدماً بكثير، إذ يكفى جداً أن يظهر فستان المرأة وعطرها ومساحيق وجهها لكى تأخذ طريقها فى المقدمة ليصبح أشباه الرجال فى المؤخرة.. وبين المقدمة والمؤخرة يا قلبى لا تحزن!.