بالأمسِ، صحَّ رِهانى. صحيحٌ أن الثمنَ فادحٌ، لكن الرهاناتِ الكبرى تأبى إلا الأثمانِ الكبرى. أعزّيك يا ريّس. وأعلمُ أن وجعَك لا يشبهُه وجعٌ. وأن المُرَّ فى حلْقِكَ مُرّان. مُرُّ فقدِك قطرةً رقراقةً كانت تمنحُك تُبهج يومك المشحون بهموم ثمانين مليون إنسان مربوطين فى عنقك، ومُرُّ حَزَنَكَ على ابنك الثاكل ابنَه، وهو بعدُ زهرةٌ توشكُ أن تستوى على عودِها النحيل. لكن الوجعَ الذى اعتصر قلبى مثلما قلوب المصريين، لم يمنعنى عن تأمُّل تظاهرة الحب التى أفاضها المصريون على محنتك. يمينيون، يساريون، فقراء مطحونون، أثرياء، مهنيون، ربّاتُ بيوت، جميعُهم ضربهم الحزن. اجتمع الشعبُ الذى لا يجتمع على شىء. هنا شعبٌ ذكى، يعرف ألا يخلطُ الأمور. أعاروا قلوبَهم الثمانين مليونًا لجارهم المصرىّ محمد حسنى مبارك، للنسر الجوىّ الذى جازف بعمره من أجل مصرَ، للرجل الذى يحمل منذ عقود حِملاً ثقيلاً. هم ذاتهم يا ريّس الذين ينتقدون النظامَ والحكومة فى كلِّ ساعات يومهم، هم ذاتهم الغاضبون المعتصمون المُضربون، منحوكَ اليومَ دموعَهم وشرخَ قلوبهم، ومنحوا الجميل محمد علاء أبوَّتهم وأمومتَهم فتجرعوا معكَ كأسَ الثكل المُرَّ. هذا مجدى الجلاد، ذو القلم الشريف الذى طالما انتقد حكومتك فى صفحته الأخيرة من «المصرى اليوم»، قد أفرد الصفحة الأولى ليحمل معك نصيبَه من وجعك، ذاك أن أجندته الوحيدة هى حب مصر وصالحها، مثل العديد من الكتاب الشرفاء فى مصر. مناوءتنا حكومتَك تشبه المثل القائل: «أدعى على ابنى وأكره اللى يقول آمين!». مرَّ زمنٌ منذ رأيتُ المصريين وقد اجتمعوا على أمر. حزنٌ عام، صامتُ حينًا، باك حينًا، وصادق طول الوقت، عمَّ المطارات والمقاهى والشوارع والمكاتب والجامعات والمدارس. صفحاتٌ مطوّلة على الإنترنت بُسطت لكلمات العزاء وطيب الدعوات لمنحك السلوى والجَلد. مجموعات باسم الطفل الذى طار إلى حيث يطيرُ الأطفالُ، لكى يشفعوا لأبويهم ثم ليهنأوا فى النعيم الخالد الذى لا يزوى ولا يفتُر، فتشرقُ وجوههم بحضرة الله ونوره إلى أبد الأبد. صَحَّ رهانى الذى لا أنى أكتبُه فى مقالاتى. المصرىُّ لا يشبهه أحدٌ من سكان الأرض. هو أجملُ سكّان الأرض. وليرمِنى بالشوفينية مَن يشاء. هى تهمةٌ لا أُنكرها، وأعتزُّ بها. من حقى أن أفرحَ بجمالى، وأنا جميلةٌ بمصريتى، مثلما كلّ مصرى جميلٌ بمصريته، ومن حقى أن أبحث فى العتمة عن شعاع ضوء، ومحنتُك يا ريّس عتمةٌ موحشةٌ، لكن حبَّ المصريين حزمةُ نور غامر، عثرتُ بها فأبهجتنى رغم الوجع. فاتك أن ترى يا ريّس، لكننا رأينا نيابةً عنك، كيف حزن المصريون كأن كلَّ رجل فيهم أبٌ لحفيدك، وكأن كلَّ امرأة حملته فى أحشائها وهنًا على وهن، وراقبته يكبر بين عينيها وذراعيها يومًا بعد يوم فتكبرُ معه أحلامُها له ورهاناتها عليه. فاتك أن ترى كيف أبتْ كاتبةٌ نبيلة اسمها سحر الجعارة أن تشارك فى برنامج تليفزيونىّ رفض أن يستهلَّ فقرتَها بعزائها لك. نحن رأينا كلَّ ذلك بدلا منك، فعرفنا أننا نجيدُ الحبَّ وعرفنا أننا جميلون، لأننا مصريون. لكَ أن تفرح بنا وبمكانتك لدينا، رغم ظرفنا القاسى وفقرنا ومرضنا. وفى الأخير أدعوكَ أن تردد مع السيّاب قوله: لكَ الحمدُ مهما استطالَ البلاءْ/ ومهما استبدَّ الألمْ/ لك الحمدُ، إن الرزايا عطاءْ/ و إنّ المصيباتِ بعضُ الكَرَمْ. [email protected]