الظاهر أننى بالفعل بعيدة جداً عن الحياة، كما اعتاد أصدقائى أن يقولوا، تشرنقت داخل حدود مثلث صلب حاد الزوايا غير منفذ للضوء، أضلاعه: بيتى وعملى والكتاب، تقوقعت داخل كهفى المثلث فغاب عنى أن أتابع التطورات المذهلة المتسارعة التى تجرى على أرض مصر وفضائها، لكننى انصعت مؤخراً لنصيحة أصدقائى وبدأت أتابع التليفزيون، بعض الوقت، وأذهلنى ما رأيت وما سمعت! تجد فتاة وفتى يزعقان بنبرة من ملك زمام الأمور قائلين للجمهور: «أحلامكم كتير وكنوزنا برضو كتير، زى ما عودناكو على الأحلام فى عالم الكنوز 100 جنيه دهب 100 ألف جنيه 100 لاب توب و100 موبايل.. للعثور على الكنز اتصل بينا عشان نحقق أحلامك وتطلع معانا على الشاشة، اتصل هتخسر إيه؟». ما هذا؟ هل بالفعل عودنا هؤلاء على الأحلام؟ ثم على تحقيقها باتصالات تليفونية؟ هل صار من اليسير استلاب العقلية المصرية واستنزاف جيوب أبنائها بتلك الخدع الساذجة؟ العقلية المصرية التى أنجبت مصطفى مشرفة، وزكى نجيب محمود، وطه حسين، وأحمد زويل، والبرادعى، وسهير القلماوى، ومجدى يعقوب، وسواهم العديد من عقول أدهشت العالم! لاحظوا أننى أتكلم عن أمجاد اليوم والأمس القريب، ولم أعرض لحضارتنا الفرعونية التى زلزلت أركان الأرض، كى أقطع الطريق على أعداء الكلام عن الماضى وأمجاده المندثرة، هذه الحيل الساذجة قد تغرى بعض إخواننا أولئك الذين دبت الثروات فجأة فى جيوبهم بضربة حظ جيولوجية، فأدمنوا الرهان على المصادفات، لكن المصرى صانع حضارة، يزرع طعام يومه بفأسه، ويخبز خبز أولاده بيديه، ليس ابن مصادفة أو ضربة حظ، فلمن يتوجه هؤلاء المعلنون؟! قال محمود درويش عن مصر والمصريين: «أنا ابن النيل، هذا الاسم يكفينى / ومنذ اللحظة الأولى تسمى نفسك «ابن النيل» كى تتجنب العدم الثقيل / هناك أحياء وموتى يقطفون معاً غيوم القطن من أرض الصعيد / ويزرعون القمح فى الدلتا / ... / هل عرفت الآن نفسك؟ مصر تجلس خلسة مع نفسها / لا شىء يشبهنى». ثم تقف امرأة فاتنة ممشوقة القد، منتقاة بعناية لحسنها، لتشدو: «أنا راح أغنى كليب / كله كلام مغلوط / وانتوا تقولوا أوام / الاسم المظبوط / أنا مش شوقية / أنا حمدية أنا شكرية / أنا حلوة ومهلبية / أنا باعرف أعمل ملوخية... اتصلوا بنا وقولوا اسم الأغنية تكسبوا ألف دولار»! ثم يأتى «خط الفرفشة»! «اتصل برقم كذا تسمع أحلى نكتة! خط الفرفشة عملناه مخصوص علشان تضحك وتريح بالك»!! والسؤال لا يبرحنى: من يخاطب هؤلاء؟ المصريون؟ معقول؟ وكيف سمحت وزارة الإعلام بهذا الرخص والتدنى والاستخفاف بالعقل المصرى والاستهانة بوعيه وعقله؟ أرفع، عبر مقالى هذا، مطلباً مباشراً لوزير الإعلام المصرى أن يحظر إذاعة كل تلك الإعلانات الركيكة، وكل إعلان يستخف بوعى المواطن المصرى ويعمل على تفريغ روحه وثقافته، وفى المقابل يجب علىّ أن أشيد بالفقرات التنويرية التى تعمل على إذكاء وعى الناس بحياتهم مثل تلك التى تحث الشباب على مساعدة كبار السن، أو على الاجتهاد وتحقيق الأحلام بالعمل، أو تحديد النسل المنفلت... إلخ. يقول هتلر فى كتابه الداهية «كفاحى»: «الدعاية على جانب عظيم من الأهمية، فهى أداة لتنوير الأذهان من جهة، ولخداع من يراد خداعهم من جهة ثانية، وهنا يجب أن تتوجه الدعايا إلى حواس الشعب لا إلى عقله». لابد أن من صمم إعلانات كهذه قد قرأ هذا الكتاب، خاصة مبدأ التكرار الذى يقول: «بث الأفكار التى تنقش فى ذاكرة الناس بالتكرار»، لكن «هتلر العنصرى» كان قد اعتبر أن كل الجماهير فى العالم، عدا الآريين الألمان، من السوقة والرعاع الذين يجب سوسهم والسيطرة عليهم، أو حتى إبادتهم إن كانوا يهوداً، ذلك أن البشر، وفق هتلر، ثلاثة أقسام، صانعو ثقافة، وهم الجنس الآرى أى الألمان، مستهلكو الثقافة، مثل اليابانيين، ثم مدمرو الثقافة، مثل اليهود والزنوج، فيا ترى أى قسم من تلك الأقسام يرانا منتجو هذه الإعلانات، نحن مشاهديها المصريين؟! [email protected]