تمر الدولة المصرية الآن بثلاث أزمات كبرى وكلها كانت متوقعة ومعروفة ومكتوبة فى جميع الدراسات المستقبلية عن منطقة الشرق الأوسط. المشكلة الأولى، وهى مشكلة المياه ومطالب دول حوض النيل بتحقيق جزء من نسبة مصر من إيراد النهر، معروفة منذ مدة طويلة، ومصر ودن من طين وودن من عجين، فلا الخارجية المصرية فعلت شيئاً ولا الأجهزة السيادية التى كان لها دور كبير فى أفريقيا والعالم العربى طلبت منها قيادة الدولة القيام بنشاط هناك، وعندما وقعت الفاس فى الراس وأصبح واضحاً أن دولاً كثيرة منها إسرائيل لها مطامع فى مياه النهر أصبح موقفنا صعباً خاصة أن استهلاك مصر من المياه يكفيها الآن بالكاد فى الوضع الحالى، ومع ذلك لم نقم بعمل أى مشروعات لترشيد الاستهلاك بل توسعنا فى رى ملاعب الجولف بمياه نهر النيل فى الصحراء ولم نحافظ على أرض الوادى الخصبة التى كان يمكن ترشيد الرى فيها بسهولة نسبية، وسمحت الدولة بفوضى عارمة فى البناء على الأرض الزراعية وسمحت بمخالفة جميع القوانين التى سنتها لحماية الأراضى الخصبة، بل، تغاضت عن الأوامر والمحاكمات العسكرية للمخالفين وبدأت تزرع فى الصحراء بتكلفة ضخمة جداً واحتياجات مياه كبيرة جداً. النتيجة أن ثلاثة عقود من عدم التخطيط المصحوب بكم غير مسبوق من الفساد أدت إلى حدوث مشكلة مياه كبرى فى مصر التى هى هبة النيل التى جار عليها الزمن لأنها لم تحافظ على النعمة التى وهبتها لها الطبيعة منذ بدء التاريخ، وذلك بأن أهملت النهر وألقت فيه القاذورات والكيماويات والمواد المسرطنة، هل هناك نظام حكم يستحق الحياة بل يريد أن يستمر أكثر وأكثر، وهو الذى يهمل شريان حياته ويترك الفساد والإهمال يقضيان عليه؟ ويؤدى إلى ضياع النهر التى بنيت عليه حضارات منذ آلاف السنين، وكان المصريون يقدسونه ويحتفلون بعيد فيضانه فى عيد وفاء النيل. المشكلة الثانية، وهى مشكلة الطاقة، أعلن وزير الكهرباء صراحة أنه لكى تستمر كل المحروسة بها إضاءة وكهرباء طوال الوقت نحتاج إلى ثمانية مليارات جنيه، وحيث إنها غير متاحة فالحل هو إطفاء أجزاء من مصر لفترات لتخفيف الأحمال وطبعاً يحدث ذلك فى الأحياء الفقيرة وقرى الصعيد. مشكلة الطاقة أسبابها معروفة، أولها سوء التخطيط، فمن المعروف أن مشروع توشكا الفاشل وهو كان المشروع الذى بنى عليه الرئيس آمالاً كبيرة ليترك شيئاً ضخماً باسمه، ثبت أنه كارثة. قبل بدء المشروع قدم الدكتور رشدى سعيد دراسة وافية ليثبت فشل المشروع وأن مستوى الأرض أعلى بكثير من مستوى النهر وأن الطاقة الكهربائية اللازمة لرفع المياه تجعل أى نوع من الزراعة غير اقتصادى، وتضيع كمية رهيبة من الطاقة، وقال رشدى سعيد كيف نترك أرض الوادى للبناء وتروى أرض صحراوية بزيادة مئات المرات فى التكلفة، هذا بالإضافة إلى العقود المجحفة فى تمليك الأراضى للأمير السعودى. والنهاية تقلص المشروع تدريجياً حتى أصبح يمثل عشرة بالمائة من المشروع الأصلى وبعد أن صرف عليه حوالى 12 مليار جنيه وهو مبلغ كان يكفى لرفع مستوى الطاقة فى مصر بسهولة. وفى نفس الوقت قام مبارك بعد حادث تشرنوبل فى الثمانينيات بإلغاء مشروع إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية بجرة قلم، وهو قرار عنترى بعد أن كانت الدراسات انتهت والعقود وقعت مع الفرنسيين وبقى بدء التنفيذ، ومنذ ذلك الوقت يتلكأ النظام فى مشروع الطاقة النووية وحاول منظمو حملة التوريث إلغاءه نهائياً بسبب عدم وضوح الرؤية والفساد. وخلال أكثر من عشرين عاماً استمرت النظام المصرى فى عدم التفكير فى إحياء المشروع النووى وذلك بطريقته التاريخية فى الركود وقلة التفكير وانعدام الحيلة، وحتى حين قرر منذ سنوات قليلة إحياء المشروع تحت ضغط الخبراء استمر بطء الحركة واستمر ضغط رجال الأعمال حتى صدر القرار أخيراً، إلا أننى غير متأكد من قدرة هذا النظام على تنفيذ المشروع لأنه غير قادر على اتخاذ قرار وطنى بعيداً عن موافقة الكبار خاصة أمريكا. وقد وهبنا الله كماً كبيراً من الغاز الطبيعى وهو منحة للمصريين، انظروا ماذا فعلنا؟ صدرنا الغاز إلى إسرائيل وغيرها بأسعار ضئيلة بعقود طويلة لتضىء تل أبيب بتكلفة منخفضة ونطفئ المدن المصرية، عدم شفافية العقد مع عدم إعلان بنوده بوضوح يثير تساؤلات كثيرة. ونحن بدأنا فى استيراد الغاز بالأسعار العالمية حتى نوفى احتياجاتنا، ويقال من إسرائيل كما نشرت الصحف الإسرائيلية. ثم أخيراً قمنا بتغيير العقود مع شركة بريتش بتروليم بطريقة مجحفة لمصر، وسوف يؤدى ذلك إلى مطالب من جميع الشركات بأخذ نفس المميزات التى تنازلنا عنها بسهولة وبطريقة تدعو للريبة والقلق على الأقل من كفاءة المفاوض المصرى، وربما من أشياء أخرى. وهكذا بددنا الطاقة والماء، وعندما نتحدث عن الغذاء فلم نشجع الفلاحين على زراعة القمح حتى لا نكون معتمدين بشكل شبه كامل على الاستيراد. لماذا نترك لأحد أن يلوى ذراعنا بسبب نقص القمح؟ لقد اكتفت دول كبيرة مثل الهند وصغيرة مثل سوريا اكتفاء ذاتياً من القمح بعدة مشروعات منظمة. ما حدث هو خيبة ثقيلة وغباوة وسوء تخطيط وسوء تصرف وقلة وعى وغياب للتفكير العلمى أدى بنا إلى التهلكة. ما حدث لا يمكن أن يستمر، التغيير أصبح ضرورة حتمية، ومن قضوا على مستقبل مصر عليهم أن يرحلوا جميعاً بدون استثناء. قوم يا مصرى ... مصر دايماً بتناديك!