جلست أمينة فى إحدى مركبات الدرجة الثانية المكيفة، كان القطار عائدا للإسكندرية بعد أن تأخر طويلا فى القيام. الليل شتائى حزين، والعربة شبه مظلمة، تصاعدت احتجاجات واهنة على انطفاء النور لكنها تمنت ألا يُصلحوا العطل حتى انتهاء الرحلة. الظلام يتيح لها البكاء بوفرة، والاستغراق فى أحداث لياليها الماضية، وتأمل سطوة الطبيعة من خلف النافذة، ومضغ الحزن الكامن فيها باستمرار. الليل يبدو موحشا من خلال الزجاج المبلل بالمطر، قطعة من الظلام الحالك تشقه مصابيح واهنة، وكأنها الأمل.. آه أين الأمل؟ والمطر ينحدر فوق النافذة وكأنه دموع. البكاء الذى تمنته ولم يطاوعها، الجميع بكوا أمام جثة أبيها الراقدة فى استسلام هادئ طويل. أمها بكت، عمتها بكت، حتى أخوها الذى أذاقهم المرّ بكى. هل كان ثباتا ما منعها من البكاء أم عدم تصديق؟ جزء من عقلها يرفض أن يتم الأمر بهذه السهولة، أو يصدق أن الإنسان مقضى عليه بالموت، يحيا وينمو ويحب ويكره، ويعانق الأحلام الطارئة ثم يتوقف كل شىء بسبب عطب مفاجئ. كم كنت ساذجة حين تصورت أن الحياة خالدة!!. ترى ماذا ينتظرها فى مستقبل أيامها؟ وكيف تتصور حياتها من غير أبيها، صديقها الوحيد؟ الذى كان يربطها به شىء لم تحاول تفسيره، كان التفاهم كاملا بالنظرات، وأحيانا بالصمت. هادئا صابرا مستسلما. يفسره البعض ضعفا، وتفسره هى بالقوة الكامنة فيه. حينما خاب أمله فى ابنه الوحيد انعقدت آماله بها، ولم تخيب يوما رجاءه. حازمة نشيطة سريعة الخطوات تحاول أن تخفى أنوثتها لتكون الولد الذى تمناه. وفجأة أبطأ القطار من سرعته، وهدأت الرجة التى تشبه القعقعة، وخُيل إليها أنها تسمع صوتا كالنحيب، هادئا مسترسلا مستفيضا. نظرت حولها فى فضول وكأنها تتشاغل عن أحزانها المهيمنة، وفى المقعد الذى يتقدمها بصفين رجل يدفن رأسه فى زجاج النافذة ويهتز اهتزازات مكتومة، يبكى؟ بالفعل يبكى، غارقا فى الظلام بأكمله فلم تتبين ملامحه وإن تمنت ذلك. وفجأة شعرت باضطراب، كعادتها كلما شاهدت رجلا فى حالة ضعف. صديقاتها فى العمل لم يعتبرنها قط كالفتيات الأخريات، ولكن هل هن صديقات حقا؟ هل توجد واحدة تستطيع أن تذهب إليها وتبكى على صدرها؟ زميلات عمل تجمعهن علاقة مؤقتة، وتفرقهن الأيام عند أول منحنى. ولكن ما دخل هذا بالموضوع؟ ولماذا تتداعى أفكارها كخيط تمسك بأوله ولا تعرف نهايته؟ هل تريد أن تقول إنها ضعيفة أمام بكاء الرجال؟! تتذكر فى ضعفهم صورة أبيها راقدا فى فراش المرض كمحارب مهزوم يُسلّم بهزيمته، خمس سنوات رقدها بالكامل مشلولا بعد حسرته على ضياع مستقبل ابنه، مستسلما بالكامل وكأنه يتعجل نهايته. برغم ذلك أصر على أن تذهب إلى الإسكندرية لتلتحق بفرصتها للعمل. لم تتردد هى فى الرفض ولكنه أصر. لم تشاهده من قبل بهذه الدرجة من القوة والإصرار، فهل هى القوة الكامنة فى نفوس الرجال، أم هو الحب الأبوى الهادئ الذى يضحى براحته على مذبح مستقبلها؟.. مستقبلها؟ أى مستقبل!. جاوزت الثلاثين ولم يأت رجل، رجل واحد يستشعر أنوثة تخفيها حتى عن نفسها، رجل!!، لماذا تحتاج المرأة دائما إلى رجل يكمل نصفها الناقص، نصفها الحزين؟ وتوقف القطار تماما وساد الصمت، وحدها من تسمع نشيج الرجل الجالس على مقربة، معظم المقاعد خالية، والركاب القليلون فى مقدمة العربة يغطون فى نوم مريح. صار بكاؤه الآن صريحا، وكأنه يريد أن تسمعه، يناديها، يسألها عن أنبائها. اسمى أمينة لو كنت تهتم، وحيدة تماما، بعيدة تماما، موحشة تماما. ترى لماذا تبكى بهذه الحرقة؟ هل هجرتك حبيبتك؟ أنا هجرنى الحب ولم أبك.. هل كان حبا حقا؟ صلاح!!. كنت مراهقة معجبة بابن الجيران، وحينما تلاقينا على الدرج رفعت إليه عينين مليئتين بالحب فلم يلاحظهما. انصرف وعلى وجهه خواء كامل. لماذا ينتابها الخجل المميت كلما عاودتها الذكرى؟ ولماذا لا ينتبه الرجال أبدا إلى العذوبة الكامنة فى روحها؟ لأنها تغسل وجهها كل صباح وترتدى الثياب الفضفاضة!، وتدخر فطرة التزين لرجل واحد.. رجل!، دائما رجل!. عفوا سيدى إننى أهذى، من حسن الحظ أن الأفكار لا تنتقل عبر الأثير، بل ليتها تنتقل، وإذاً لعرفت كم أحتاج رجلا يبكى فأجفف دموعه، أو أبكى فيجفف دموعى، أو نبكى معا وتمتزج دموعنا.. آه لو تعرف كم أنا وحيدة!.