الكورنيش.. الأوبرا.. المكتبة العملاقة.. أعمدة الإنارة.. منظر البحر .كلها مفردات لا تعرفها حياة أطفال الشوارع، هناك فى عروس المتوسط.. تحت الأرض وفى الأزقة والأماكن المهجورة يعيش ضحايا المجتمع الذى تغير والحكومة التى تجاهلت. فى نفق بئر مسعود وماسورة سان استيفانو ومسرح الكوتة يعيش أطفال خرجوا من دفء العائلة إلى براح الشارع، هناك تعرض بعضهم للضرب والمداهمات البوليسية، وأصبحت الحياة بالنسبة لهم ما بين احتمالين لا يتغيران «موتة» أو «فوتة». حاولت «إسكندرية اليوم» أن تدخل هذا العالم السرى، أن تشعر بهؤلاء الأطفال وتنقل حياتهم بالكلمة والصورة. فى مسرح الكوتة كانت البداية.. أعقاب سجائر، معلبات خمور قديمة، علب مياه غازية فارغة يستخدمونها لحفظ الكولة، والكثير من الملابس الممزقة والمحاقن.. وعلب كارتون مفروشة على الأرض، تتسع لأن ينام عليها أكثر من شخص.. هكذا كان مشهد مسرح الكوتة من الداخل.. حاولت الشرطة سابقاً إغلاق المكان، فكان رد فعل ضحايا الشارع عجيباً، مقاومة عنيفة كأنهم يدافعون عن بيت حقيقى وليس مجرد «متوى» يختبئون فيه، وحسب روايات الشرطة فإن ضحايا الشارع كانوا مستعدين لكل الاحتمالات، جمعوا زجاجات وعبأوها بالرمل والورق وحاولوا صد هجمة الشرطة على«بيتهم» بأن يشعلوها ناراً ويلقوها عليهم، ونجحت الحملة شكليا بعد مصادمات عنيفة، فبينما يختفى أولاد الشوارع من المكان نهارا، بحثاً عن الرزق أو هرباً من الشرطة كان الليل دائماً «ستّار»، يتسللون بهدوء من يعرف الطريق إلى «بيته».. محمود أحد أطفال الشوارع حكى عن المسرح بعد الهجمة الأمنية قائلا «العيال اتفرقوا.. اللى راح جنينة.. واللى شاف بير سلم.. شوية كدا بعد ما الدنيا هديت بدأوا يرجعوا الكوتة تانى.. طبعا فى الليل بيكون الجميع هنا». بعيدا عن المسرح وفى منطقة بئر مسعود كانت المحطة الثانية، يوم كامل من البحث عن «الثغرة» التى ينفذ منها الأولاد إلى المخبأ الآمن، لم يكن أمامنا سوى البحث عن «مرشد» من ضحايا الشوارع يدلنا على الطريق بين الصخور. محمد كان دليلنا هذه المرة، شاب تمرس على حياة الشارع، وعرف بدقة «مسالك» المخبأ بين صخور صلبة تحيط بالبئر، كان محمد يتحرك بخفة وثقة ويحكى «ده مكان ماحدش هايعرف يوصل له إلا إذا كان معاه حد من العيال»، وصل محمد إلى مصدات الموج، سار قليلا ثم أشار إلى فراغ بين المصدات وقال «هنا.. العيال بييجوا ويقعدوا ومافيش حد يقدر يشوفهم.. المكان دا بقى بالذات كل اللى بييجوه بيبقوا يا خاطفين معاهم بنت من الشارع يا جايبين مخدرات.. هنا يقعدوا ويعملوا اللى هما عاوزينه كله ومافيش جنس مخلوق يعرف يوصل لهم ولا يتوقع إنهم هنا.. لا تقولى حكومة ولا أهالى.. دى منطقتنا واحنا أكتر ناس نعرف مسالكها». المكان الذى أشار إليه محمد كان مستحيلا، فالموج فى الشتاء يغمره تماما، والحديث عن أى تواجد لبشر داخل هذه المنطقة الخطرة يبدو عبثيا.. ابتعدنا قليلا عن النفق لنقابل أحد المخبرين المشاركين فى حملة إغلاق ماسورة سان استيفانو قبل أكثر من عام، ليؤكد الرجل أن نفق «بير مسعود» هذا هو ماسورة سان استيفانو التى تم تشميعها قبل أكثر من عام، وهو ما يتعارض مع كلام مى إحدى ضحايا الشارع التى أكدت أن النفق لايزال موجوداً، وأن آخر ضحية كانت هناك منذ شهر واحد.