سوف لا تكاد تصدِّق أن هذا الرجل على وجه التحديد، هو قائل هذا الكلام، وسوف تكون فى حاجة إلى شىء من الصبر تتأمل به كلامه، ثم تسأل نفسك: لماذا، وما الذى يقصده الرجل بالضبط؟! وقف يتكلم فقال: كان تعليمنا هو محور تفوقنا على الأمم طوال السنين الماضية، ولكننا، على مدى مائة عام مضت، لم نغير من الطريقة التى نُلبى بها مطالبنا، وما لم نغيرها، وما لم نجد طريقة نطور بها مدارسنا، فسوف نفقد القدرة على المنافسة مع سائر الأمم! ثم قال: فى السنة الأولى التى تركتُ فيها إدارة شركتى الكبرى، وتفرغتُ للعمل الاجتماعى الخيرى فى بلدى، وخارجه، فإننى قابلتُ رجالاً كثيرين، قابلتُ رجلاً يحاول أن يجد علاجاً للمرض الخبيث، وقابلتُ رجلاً آخر يحاول أن يقع على طريقة يمكن بها مقاومة الجفاف وأثره على المحاصيل، ثم قابلت ثالثاً يعمل مدرساً، وكان لايزال يحاول أن يقع على سبيل يمكن به التواصل أكثر مع الطلاب، وقابلتُ.. وقابلتُ.. وكانوا جميعاً أصحاب مواقع ووظائف مختلفة، ولكن طموحهم كان واحداً، وكانوا، بالإجمال وبلا استثناء، يحاولون، دون اتفاق مسبق بينهم، أن يبتكروا.. كانت لديهم الرغبة فى الابتكار، فى كل لحظة، رغم أن مجال عمل كل واحد لا علاقة له بمجال عمل الآخر! ثم يقول: حين تأملتُ من جانبى شكل العالم وهو خارج من أزمة مالية عالمية عام 2009، ولايزال يعانى آثارها حتى الآن، فإن النظرة الأولى على العالم، لا تبشِّر بالخير الكثير فى المستقبل، لعالم يموت فيه ستة ملايين شخص، سنوياً، من الجوع وحده! توقف الرجل وكأنه يرتب أفكاره، أو كأنه يعيد التأمل سريعاً فى خريطة العالم أمام عينيه، ثم قال: أى متأمل لعالمنا، بصورته الحالية، سوف يجد أن التشاؤم والتفاؤل معاً يتنازعانه وسوف يكون التشاؤم هو الأقرب إليه، وسوف يكتشف هذا المتأمل أنه لا يكاد يتشاءم، حتى يعود ويتفاءل، ولايكاد يتفاءل حتى يعود ويتشاءم من جديد، ولكنه، رغم ذلك كله، سوف لا يجد مفراً من الميل إلى التفاؤل، ولكنه تفاؤل يقوم بالضرورة على قواعد وأسس وأركان وليس تفاؤلاً معلقاً فى الهواء بلا قدمين! تغليب التفاؤل فى حالتنا هذه، مرتبط بشكل جوهرى بحدوث «اختراقات» كبيرة فى مجال التوصل إلى محاصيل تقاوم الجفاف، فيكون إنتاجها مضاعفاً، وينجو الملايين فى العالم الفقير من الموت جوعاً.. تفاؤلنا أيها السادة متوقف على حدوث «اختراقات» فى اتجاه محاصرة المرض والتوصل إلى علاجات حاسمة لأمراض تفتك بضحاياها فى كل يوم، تفاؤلنا لا يمكن أن يكون له محل من الإعراب، ما لم تحدث اختراقات، بل وفتوحات فى مجال إنتاج طاقة متجددة، ونظيفة لا تضر بالبيئة، ولا تقتل الإنسان بالتلوث الذى تسببه، وفى الوقت ذاته تطمئنه على مستقبله، مادامت الطاقة غير المتجددة المتمثلة فى البترول والغاز أساساً، سوف تنفد فى يوم من الأيام! وحين أراد الرجل أن يختتم كلامه، قال وكأنه يقرأ من كتاب: «إننى أتكلم عن ثورة هادئة من أجل البشر.. ثورة لا تسيل فيها قطرة من الدم، ولكن يسيل فيها الكثير من الجهد، ومن العرق، ومن العمل الجاد، ثورة تؤدى إلى إنجاز هذه الاختراقات أو الفتوحات من أجل كل إنسان على هذا الكوكب الذى كان قدرنا أن نعيش عليه! وهذه الثورة لن يكون لها أثر، ولن تقع إلا بالابتكار، وهذا الابتكار لا يأتى ولا يتأتى، إلا من خلال كلمة واحدة ووحيدة من سبعة حروف، هى: (التعليم)»! أما الرجل الذى أنهى كلامه، على هذه الصورة، فهو «بيل جيتس»، صاحب شركة «مايكروسوفت» العالمية، وكان قد تركها منذ عدة أعوام وتفرغ لإدارة مؤسسة للعمل الخيرى، يشاركه فيها بالمليارات ملياردير أمريكى آخر اسمه «وارين بافيت»! الكلام هذه المرة عن حتمية الانحياز إلى التعليم، بوصفه أولوية لا يجوز أن تنازعها أى أولوية أخرى، لم يأت من جانبى، فقد كان كلامى عنه، ولايزال، سبباً فى صداع لكثيرين ممن يجدون أننى لا أتوقف، ولا التعليم عندنا ينصلح حاله، الكلام هذه المرة من بيل جيتس، الذى يحذر إدارة بلاده فى واشنطن، من أنها سوف تفقد مكانها إذا لم تنتبه إلى التعليم، فما الذى كان سوف يقوله لو تكلم عنا؟! حقيقة الأمر أن بلاده تدرك جيداً معنى ما يقول، ولا يغيب التعليم عنها لحظة، ولذلك فإننى أتخيله وكأنه حين قال هذا الكلام كان واقفاً يصرخ فى ميدان التحرير!