يكفى أن تنزل من مترو جامعة القاهرة وتسأل عن صالون «أحمد اللى ما بيتكلمش»، ألف من سيدلك على محله البسيط الذى يعمل فيه خمسة أشقاء شاءت الأقدار أن يحرموا من حاسة الكلام والسمع، فجميعهم يعانون من الصمم لكن العزيمة والإصرار كانتا أكبر من أى تحد يعوق تواصلهم مع الناس وكسبهم للقمة العيش الحلال. مزيج من الصبر والإصرار دفع محسن وأحمد ورمضان ورضا ومحمد، للإقبال على الحياة معتمدين على ذاتهم وذكائهم الفطرى الذى وهبه الله لهم عوضا عن نعمة الكلام وبمساعدة شقيقهم «جمعة» الوحيد الذى يتكلم بشكل طبيعى، وأسسوا لعدة صالونات حلاقة بعد أن توسع العمل فى المحل الصغير الذى يديرونه منذ الثمانينيات. جميعهم نشأوا فى أسرة بسيطة يرعاها أب لم يحصل على وظيفة حكومية، وشق طريقه فى التجارة والعمالة الحرة، ليربى أولاده الذين يحتاجون لرعاية خاصة، ونجح عم صالح الذى جاوز السبعين فى أن يربى «رجالة» كما يشير لك الابن الأوسط أحمد. زرنا محل الأصابع الذهبية للكوافير الرجالى، لا شىء غير طبيعى فى المحل بخلاف أن الراديو منخفض قليلا، ليسمح بتبادل الإشارات وسماع الصنايعية الصم لطلبات الزبائن. فى المعتاد يتوجه أحمد بعد الظهر لفتح المحل الذى يستمر العمل فيه حتى ساعة متأخرة من الليل، يتناول إفطاره مع ابنيه مصطفى ومحمد اللذين يدرسان فى المرحلة الابتدائية وسعادة والدهما بهما أكبر لأنهما يتكلمان، ويجتهدان فى الدراسة. يعيش الأشقاء الخمسة حياة طبيعية، تسألهم عن حالهم فيجيبونك بإيماءات الشكر وتتمتم شفاههم دون صوت بعبارات الحمد والثناء، محسن صاحب الفضل، وهو الأخ الأكبر، 40 سنة، أول من بدأ المهنة، تعلم فى صالون ريفولى فى الدقى- كما يحكى جمعة- فى الثمانينيات، أخذه أبوه صغيرا وطلب من صاحب المحل تعليمه، حتى يتمكن من الاعتماد على نفسه رغم إعاقته. يقول جمعة إن نجاح أخيه محسن لم يكن حافزا لإخوته ذوى الإعاقة فقط، بل إنه دفعه للالتحاق بهم ليتولى إدارة شؤونهم. المدهش أن المهنة تحتاج للتفاهم مع الزبون ومعرفة مطالبه، لكن أخاهم الوحيد الذى لا يعانى من مشكلات النطق يقول لك ببساطة «ربنا أخذ منهم الكلام وأعطاهم الذكاء وعوضهم كثيرا، وكل الزبائن مبسوطين من شغلهم». العلاقة بين الحلاقين وزبائنهم لها طابع خاص، يقول عم حمادة، الذى جاء ليأخذ تنعيمة «فى البداية كان البعض يشفق عليهم، لكن لا أحد يرضى أنه يجامل حد عشان مظهره، وبعد التجربة، اكتشفت أن صنعتهم جيدة، وأصبحت زبون دائم عندهم». سمعتهم تجذب الزبائن، هكذا يقول خالد منصور، الذى قابل أحمد فى فرح بالمنصورة وقرر أن يأتى بابنه محمد للحلاقة هنا رغم سكنهم فى أرض اللواء، بعيدا عن مكان المحل فى أبوقتادة. كان مثيرا أن تجد مجموعة من الأشقاء يعاونون بعضهم رغم ظروف الإعاقة، لكن الأجمل أن تراقب محمد ذا الترتيب الثالث فى العائلة وهو يتعامل مع الزبائن، سألناه عبر الوسيط المترجم– شقيقه جمعة- كيف يخرج الزبون من عندك.. مبسوط؟.. فضل محمد أن يرينا على الواقع مع أول شخص يدخل المحل، بابتسامة عريضة يستقبل محمد الزبون، ولأنه يحلق لأول مرة، يبدأ بربط منديل الحلاقة بشياكة ورفق، ويرش الشعر بالماء، ثم يدور حوار بالإشارات، فى أقل من 20 ثانية يدرك محمد طلبات الزبون، ويبدأ المقص فى العمل، وبين الفترة والأخرى يستفهم عن أى طلبات جديدة، وفى النهاية يرش الكولونيا ويهمس من تحت شفتيه «نعيما». طوال فترة إجراء الحوار، كان يدور فى ذهنى تساؤل، لماذا لم يلجأ هؤلاء لسؤال الناس مما فى أيديهم؟ سألت محمد عبر الوسيط فأجاب بمساعد أخيه «الواحد لازم يتحرك ويشتغل، بدل أن يحتاج لمعونة من أحد، محسن استلمنا خام، وطلعنا معلمين تمام، إخوتى لا يتأخرون عن أى معاق، ساعدوا أكثر من واحد». سألته عن أمنياته فقال: نفسى أفتح محل فى الدقى أو العجوزة، أنا أعرف أعمل أى قصة، وحاليا عندى محل فى شارع العشرين، لكنه يحتاج لفلوس كتير، وفى كل الأحوال هو راض تماما وطلب منا صورة جماعية أخذها فى آخر اللقاء. لفت انتباهى شهادة مبروزة علقها أحمد الشقيق الثانى للإخوة الخمسة على حائط المحل، ومكتوبة باللغة الإنجليزية، من نقابة مصففى الشعر فى عام 1996، طلب جمعة من أحمد يحكى عن شهادته لنا، فوقف إلى جوارها مزهوا وأشار أحمد وترجم جمعة: أنه أخذها فى مسابقة أسرع حلاق، وهى مسابقة نظمت تحت إشراف محمد الصغير لاختيار أسرع وأفضل 10 حلاقين، وفاز من 14 سنة، وأخذ شهادة تقدير وميدالية ذهب باعها لتوسعة المحل وتغيير ديكوراته. لم يخل اللقاء من قفشات وهزار بين الإخوة والزبائن، ومنهم الحاج أحمد عبدالمعطى من أهالى المنطقة، يتذكر كيف بدأوا المشوار، ويقول «أحلق عندهم منذ 20 سنة، كان محسن بصحته، والشباب دول شغالين صبية عنده». لكن هذه الوجوه الباسمة تخفى بعض المشكلات والأمنيات التى لا يخلو منها البشر، أولها مرض أخيهم وصاحب الفضل عليهم «محسن» الذى تخطى الأربعين من عمره ويعانى من مشكلة نفسية وميل للاكتئاب، ويتمنى جمعة شقيقه الذى يصغره أن يساعده أحد فى علاج محسن ورد الجميل إليه. وثانى المشكلات هو أن رضا لم يوفق معهم فى المهنة ولم يحبها ويبحث عن عمل آخر، رغم أنه لا يتكلم، ودفعت الظروف بشقيقهم رمضان إلى الاستقلال بنفسه فى محل آخر أصر أن يعمل فيه وحده، بعد زواجه لينفق منه على عائلته حيث إنه أب لأربع بنات جميعهن فى المدارس. أما عن الأمنيات، فيقول جمعة «أتمنى أن أحصل على وظيفة حكومية لى ولإخوتى فى أى مصلحة قريبة. قلنا لأحمد: نفسك فى إيه؟ فقبل يده «وش وضهر» وقال الحمد لله، لكنى أتمنى أن الفواتير والكهرباء ترخص، لأن الحياة غالية، لكن مش مشكلة هاشتغل أكتر كل يوم. غادرنا المحل، ولسان الحال لا تسعفه الكلمات ليعبر عن شباب أحبوا الحياة رغم إعاقتهم أملا فى غد أفضل، وأصابعهم الذهبية هى مصدر كل قرش حلال يدخل لهم، وهى أيضا مصدر إعجاب جيرانهم الذين سلموا لهم رؤوسهم وذقونهم احتراما لنضالهم وإعجابا بمهارتهم.