ما أشطرنا. حتى تجربة العمل الجماعى الأنجح فى تاريخنا العربى المعاصر، والتى حافظ صاحباها على بهائها حتى لحظاتهما الأخيرة، استكثرنا على بهائها أن يدوم للأبد، وقررنا أن نشوهها وننساق وراء صغائر أبناء دفعتهم محبتهم لأبيهم العظيم عاصى الرحبانى إلى أن يهيلوا التراب على ذكراه ويصوروا أن عمهم العظيم منصور الرحبانى كان مجرد ظل باهت له، دون أن يدركوا أن ما يفعلونه يسىء إلى أبيهم أكثر من غيره. لا أحب فناناً فى حياتى أكثر من حبى للسيدة فيروز سوى ابنها زياد الرحبانى العظيم أحد أبطالى المفضلين فى الحياة، لكن صمته فى هذه القضية أغضبنى منه لمدة ربع ساعة، وهى فترة قياسية فى تاريخ قصة حبى الملحمية لزياد، التى هى قصة حب من طرف واحد. عندما استمعت قبل سنوات إلى توزيعه غير الموفق لمجموعة من أجمل أغانى الأخوين رحبانى وإهدائها «إلى عاصى».. فقط، تمنيت أن أسأله ثم أسأل من بعده أخته ريما التى لم يعجبنى فيلمها التسجيلى الذى أخرجته منذ أشهر عن والدها وحاولت فيه أن تتجاهل دور عمها تماما: ألا تدركان أن تهميش دور عمكما فى مسيرة الأخوين رحبانى وإظهاره صراحة أو ضمنا بمظهر الشريك الوهمى، يسىء إلى أبيكما قبل غيره ويتهمه بخديعة جماهيره طيلة هذه السنوات؟، ما الذى كان يجبر عاصى على أن يكذب على الناس طيلة هذه السنين عندما كان يرفض تماما أن يخدش صورة الأخوين رحبانى، ويحرص على توقيع كل عمل لهما باسم الأخوين رحبانى؟ أسئلة لم نسألها لأنفسنا للأسف، لأننا نحب بهجة السير فى القطيع، ده حتى القطيع عِزوة، لذلك سرنا وراء حملة كان من بين مَن حركها أصوات غوغائية صفراء، فصدّق الكثير من كتابنا المحبين لفيروز أن هناك حكما قضائيا صدر بمنعها من الغناء، فاشتغلت البلاغة العربية على الفور لتدبيج ملاحم هجاء فى منصور ونسله والبكاء على فيروز التى تبارى الجميع فى إعلان بذلهم الغالى والنفيس من أجل عدم منعها من الغناء، دون أن يسأل أحد نفسه: ومن قال إنها ستُمنع من الغناء أصلا؟.. لم ينج من ذلك التسابق المحموم على حد متابعتى سوى أصوات قليلة مثل الأستاذ مأمون فندى والأستاذة سوسن الأبطح وسيدة الكتابة صافى ناز كاظم فى صحيفة «الشرق الأوسط» والأستاذ سعيد شعيب فى موقع «اليوم السابع» الإلكترونى، أعجبنى سعى صديقى سعيد للبحث عن نص الحكم المزعوم وإن كان قد فشل فى العثور عليه، ببركة صحافتنا العربية التى تعودت أن تكفل حق القارئ فى المعرفة المضللة، مع أن أبسط قواعد الصحافة كان يقضى بنشر نص الحكم مصحوبا بصور ضوئية له، ليتمكن القارئ من تكوين رأى حوله، لعله يكتشف مثلا كما فهمنا من البيان الذى أصدره أنجال منصور ونشرته بعض الصحف على استحياء، أن الحكم القضائى لم يرتكب جريمة عندما منع فيروز من أداء المسرحيات الغنائية التى تحمل اسم الأخوين رحبانى والتى لا تُعرض للجمهور مجانا بل تُباع تذاكرها بمبالغ فلكية وهى تستحق ذلك وأكثر إلا بعد أن يتم سداد حقوق الملكية الفكرية التى تخص منصور الرحبانى بوصفه شريكا أصليا فى إبداع هذه المسرحيات، وهو أمر لم يكن فى وسع أحد غير عاصى وحده أن ينفيه، وكان يمكن أن يفعل، ولو حتى فى مذكرات كان يمكنه أن يتركها لورثته، وهو ما لم يحدث أبدا. للأسى، كان علينا فى الأيام الماضية أن نستمع إلى طنطنات، بعضها عاطفى صادق، وبعضها أجوف حول الطمع والجشع والنفس الأمارة بالسوء التى دفعت منصور وأنجاله إلى المطالبة بحقوقهم، دون أن يقول لنا أحد فى شِرعة من يكون سعى الإنسان إلى حقوقه جشعا، أعرف أناسا من الذين كتبوا ذلك الكلام، لو ضاعت منهم مائة جنيه لبكوا عليها دما، لكن ماذا نقول؟، هى عادتنا ولن نشتريها، نحن أكثر شعوب فى الأرض تتبارى فى إعلان احتقارها اللفظى للمادة، بينما نُميت بعضنا بعضا من أجلها. وبينما استقر العالم المتحضر على اعتبار الملكية الفكرية أمرا معلوما من الحياة بالضرورة، لايزال بيننا من يستبيح سرقة إبداعات الآخرين بزعم نشر المعرفة، لم أعد أذكر عدد المرات التى كلما حدثت فيها أحدا عن الملكية الفكرية أسمعه يقول لى «فكرية مين يا عم؟»، ثم نسأل بعدها: لماذا يموت الكثير من مبدعينا فقراء، ولماذا يضطرون للعمل الشاق حتى آخر نفس من حياتهم على عكس كل مبدعى العالم المتقدم الذى يصون حرمة السطر والجملة والفكرة والمعنى والإفيه والنغمة والصورة، ويحفظ لمبدعيه حقوقهم الأصيلة التى تكفل لهم أن يعيشوا أحراراً ومستقلين ومرفوعى الرأس؟ رحم الله الأخوين رحبانى اللذين سيظلان إلى الأبد أجمل وأنبل وأصدق وأرفع وأمتع وأهم تجربة فنية فى تاريخ الغناء العربى، رغما عن أنوف الأبناء الأعداء الذين كانوا يحسبون أنهم سيحسنون صنعا، عندما أهالوا عليها غبارا نحسبه سينجلى سريعا عن وجهها المشرق إلى الأبد. على أى حال، لم يبق أمامى الآن إلا أن أهدد وأتوعد بأننى سأغلظ القول لكل من يرسل لى قائلا: «فكرية مين يا عم؟». [email protected]