ذهبت كعادتى مبكرة إلى صالة الجيم، كانت فارغة فى هذا الوقت إلا منى ومنها، فتاة فارعة ترتدى «شورتا» أسود وبلوزة بيضاء، تقف فى وضع المقص وتفرد ذراعيها على مستوى كتفيها، حيتنى بإيماءة من رأسها بمجرد أن دخلت وانخرطت فيما كانت تنوى فعله.. وجودها ضايقنى، ينضح منى القلق مصحوبا برغبة غامضة كلما تواجدت مع إحداهن.. عادة آتى قبل الجميع، أقوم بكل التدريبات أولا وأضبط جهاز السير لمدة ربع ساعة ثم تتقاسم باقى الأجهزة الوقت المتبقى بالتساوى، لا تحضر أى من مشتركات الجيم إلا قبل رحيلى بدقائق، ربما ألتقى إحداهن عند باب الخروج، إذا وجدت الصالة مزدحمة لظروف استثنائية أعود أدراجى وآتى فى اليوم التالى، هكذا عُرف عنى، وأسمونى سرا «المتوحدة»، لكن الأسرار تعرف طريقها لمن يجب أن تبقى خافية عليهم. استبدلتُ ملابسى وجنى القلق يتخذ نفس حجمى ويتلبسنى، الفتاة بالخارج تغلفها دوائر الطمأنينة، وشرائط السعادة الغامضة التى تفرزها ممارسة التمارين، الجنى يُخرج يده المرتعشة مع يدى من ملابسى التى كنت أرتديها ويدخلها معى فى ملابس التدريب، تظهر صورته فى المرآة أمامى بنابين معقوفين ومخيفين، أستدير حتى لا أراه، لكن المرايا تغطى جدران حجرة الملابس كلها. مرايا غير صافية، بها تقعر خفيف يشوه الصور، إذا نظرت فى المرآة الأمامية تبدو هيئتى عريضة، حتما أعرض من الحقيقة، وتعكس الخلفية ظهرا يمتلئ كتلا شحمية. من المرآة الجانبية تبادلنى امرأة لا تشبهنى النظر، أعبس لها فتعبس لى، آآآآه.. تلاحقنى أشكالى التى لا أعرفها من كل اتجاه. فى الصف الثانوى، أطلقت إحدى الشريرات فى الفصل علىّ لقب «كتافيوس» نسبة إلى كتفى العريضتين، وهيئتى التى تشبه المصارعين، وأضافت من باب المزاح، ال «يوس» التى كان يضيفها الإغريق والرومان فى نهاية الأسماء، وتغيرت فكرتى عن نفسى نهائيا منذ ذاك الوقت، صدقت كل ما يصفوننى به وكرهت نفسى، ظلى وصورتى التى تعكسها المرآة لاحقانى حتى فى العتمة، انتشر اللقب فى الفصول الأخرى وخرج إلى الشارع الواصل بين البيت والمدرسة، فغيرت طريقى إلى طريق مهجور ومشمس، لا تسير فيه فتيات المدرسة، وفضلت منذ ذاك الحين المشى بمفردى، ثم اكتشفن بعد درس الدولة البطلمية فى نهاية العام أن قائدا رومانيا له نفس الاسم «أكتافيوس»، وأنه هزم أنطونيوس واضطره إلى الانتحار، فضجت الحصة بالضحكات، والإشارات المبهمة التى وجهنها إلىّ، والهمسات التى ملأت سماء الفصل، على الرغم من كمونى فى نفسى، ونهر مدرس التاريخ لهن. أجهزة السير تصطف بجوار بعضها، والدراجات فى الناحية الأخرى، وبينها مكان فارغ لأداء التمارين، اعتليت واحداً من أجهزةِ السير وبدأتُ مباشرة، لن أقوم بالتمارين أمامها. مازالت الفتاة تمارس تدريبات الإحماء، كتفاها مستديران أسفل البلوزة، ورقبتها كقمع شمع مصبوب، تلتف حولها سلسلة ذهبية صغيرة تحمل قلبا يتأرجح يمينا ويسارا مع حركتها. وشفتاها ثمرة فراولة مشطورة نصفين. تفوح منها رائحة السكر. أرسلت ابتسامتى عبر دوائر الهواء بينى وبينها. أصبح ظهرى يواجهها، ودوزنت حركتى مع الموسيقى المنبعثة من أجهزة التسجيل فى حجرة المدربة بالخارج، لكن صورتها انعكست فى المرآة أمامى، تبا للمرايا!. لا تنقص من جمالها وتتآمر علىّ وحدى، الفتاة تتقافز بانتظام واضعة يديها على خصرها، ترفع ساقيها فى وضع مستقيم أمامها بالتناوب. أغمضت عينى، وحافظت على تواتر خطوتى على السير الدائر، يداى أفلتتا قضيب المسند وانزلقتا بمحاذاة جنبىّ، أنتقل إلى طريقى بمجرد الإغماض على هذا السير، تتساقط أحزانى هناك، أشق حقل القمح وأقفز عبر مجارى المياه الرفيعة، أقترب برأسى وأهمس للديدان الطيبة فى الشقوق، وللنمل الدؤوب فى صفوفه، أستنشق الرائحة الغامضة لمطالع الربيع، وأعود بمجرد توقف الجهاز أكثر هدوءا، لكنى رأيتها فى دوائر عتمة الإغماض، صدرها الناهد والعسل ينسال محدثا خطوطا على انحناءات جسمها، وشعرها المسترسل، ظلها الخافت الشفيف وكل ما يمت لها بصلة كان يتقافز معها. منذ أن كنت فى نهاية المراهقة، وظلى يضايقنى، لا يشبهنى فى شىء، يبدو فيه تكوينى مغايرا للحقيقة، إذا جاءتنى الشمس من الخلف، ظلى يمتد أمامى ويستفزنى، لا أثر لخصرِ منحوتِ، ولا بروز لجانبىّ ردفىّ، أبدو كمستطيلِ يتحرك ببلبلة، يعلوه رأس مهوش الشعر فى كل اتجاه. ظلال الشمس ليست مقياسا! صبرت نفسى، أهرب من ظلى بمراوغة الشمس، يقفز ليجاورنى من اليمين، فأهرب للناحية الأخرى، يتقزم تحت قدمى عند عبور الشارع، ثم يظهر عملاقا يحمل شكله المستطيل مرة أخرى فأقف فى الظلال وأسحقه تماما، وأستجمع شتاتى ودمعاتى تحرق زاويتى عينى. الإجهاد والعتمة يريحاننى، أستلقى بمجرد الانتهاء على أقرب كرسى مستمتعةَ بخلو المكان وهدوئه، ومتجنبةَ بابتعادى مكمن الهواجس. هواء المكان كله لى. هكذا كنت أشعر، أنتظر حتى يجف عرقى، ثم أرتدى ملابسى استعدادا للرحيل، لكن المتدربات قدمن واحدة تلو الأخرى ولم أعرف إن كنت تأخرت اليوم فلحقن بى أم ثمة أمر ما جعلهن يأتين فى مثل ميعادى. «وجودهن مجتمعات أفضل من بقائى مع الفتاة بمفردنا».. ثمة شعور يداهمنى بمجرد بقائى مع أى منهن، تنزلق نظرتى باتجاه الرقبة أولا، أرى قطرات العسل واضحة ومتناثرة فى كل جزء، ثم تنحدر نظرتى إلى الصدر، أتخيله منفلتا وصلبا تحت ال«تى شيرت»، أنفضح تماما وتعرف أى فتاة أحدثها بأن أمرا ما يلفنى، أو ارتباكا يغلف حديثى ونظراتى إليها، لكنها لا تحدده فى البداية، وقد ترجعه إلى إرهاق ما بعد التمرين، تنتابنى الرغبة الشريرة بمجرد وصول نظراتى إلى خصرها وإحاطة وركيها، أشعر بأن عينى جاحظتان، يتصبب عرقى غزيرا وتبدو يدى متمردة على سيطرتى، تتنازعنى رغبة فى ملامسة تلك الانحناءات التى تبدو واضحة وشهية، ترغب فى تذوق العسل، وقد تمتد يدى دون ملامسة لتسير بمحاذاتها، ترسم الانحناءات على الهواء الملاصق، لا أسمع شيئا مما يقال فى هذه اللحظة، إذا لم تهرب الفتاة قبلى، بعد انقسام سرى بيننا، هربت أنا من المكان، وألم شديد يشطر يدى. أتعذب لوجودهن، قررت الرحيل مكتفية بما فعلته اليوم، لا طاقة لى على البقاء دون دراسة جسم كل منهن على حدة، مقارنة ساقى كل واحدة منهن، ردفيها، صدرها وخصرها المنحوت، لا تقول أجسامهن سوى إنى مختلفة، اتجهت صوب حجرة الملابس، همساتهن وصلتنى كصوصوة عصافير صغيرة وسعيدة، لم أنظر خلفى، انغلق الباب بمجرد دخولى لكنها كانت هناك، تبدل ملابسها الرياضية، متى أنهت التمارين وقررت الرحيل؟ ولم علىّ دوما الإبقاء على مقص أعصابى مضموما، صدرها كطبقى جيلى، والقلب الذهبى ساكن بينهما، بادلتنى الابتسام وأعطتنى ظهرها حرجا، فأعطيتها ظهرى احتراما لحرجها، لكن مرآتى تكشفها تماما، تلف نظرتى عنقها وتسقط لتشمل نهديها. تلتقى نظراتنا، ترتعش يدى وتهتز الصور.. تتابع عيناى جولتها بهدوء، تلتقط الفتاة أشياءها المبعثرة بيديها: الحقيبة وباقى الملابس، وعيناها على يدىّ ترقبهما، تفتح الباب، تنسحب من الغرفة ملتصقة بالجدار خلفها، وتخرج سريعا فتتعالى ضحكاتهن فى الخارج. قصة : منى الشيمى قنا روائية وقاصة مصرية، فازت بالعديد من الجوائز، أهمها: جائزة دبى الثقافية، الشارقة للإبداع، نادى القصة، الجائزة المركزية لهيئة قصور الثقافة، صدرت لها ثلاث روايات، ومجموعتان قصصيتان.