لعلّ تفسير ظاهرة الصحوات الدينية فى العالم يسهم فى فهم فصل جديد فى لعبة الأمم! فقد باتت الظاهرة مشتركة لدى الأديان جميعها تقريباً، لكن تفسير كل صحوة يختلف عن تفسير الأخرى، والمثير للدهشة أن هذا التفسير يختلف من عموم الناس إلى النخب الحاكمة، وهنا مكمن الخطورة! فالأفراد يعودون إلى الدين فى الغرب فى محاولة للحد من آثار التقدم الاقتصادى والتكنولوجى على التماسك الاجتماعى ومؤسسة الأسرة والقيم الأخلاقية، أما الصعود الإسلامى فى العالم العرب- إسلامى فيبدو تعبيراً عن شعور بالإخفاق الحضارى فى مواجهة العالم المتقدم، وعلى صعيد النخب الحاكمة، فالغرب يقوم بتوظيف ظاهرة الصحوة الإسلامية فى إطار نظرية اصطناع العدو لتبرير هيمنته وتسويق مخططاته الاستراتيجية ليقطع الطريق على الصين الآتية إلى المنطقة غداً أو بعد غد! والنخب الحاكمة فى العالم العرب- إسلامى تقدم نفسها فى ظل هذه الصحوة الإسلامية بوصفها البديل الآمن والأكثر براجماتية من تيارات أو جماعات أصولية تنذر بالفوضى وتهدد مصالح الغرب. الصحوة الإسلامية جزء من مشهد أكبر للصحوات الدينية فى العالم. ربما تبدو أكثر إثارة للانتباه بحكم تواجدها الملحوظ فى الشارعين العرب- إسلامى وفى تفصيلات الحياة اليومية، والمؤكد أنها أشد راديكالية فى العديد من أشكالها مقارنة بغيرها من الصحوات الأخرى. فالأسباب التى أدت لظهورها تختلف عن تلك التى صنعت الصحوات الدينية الأخرى، فالعودة إلى الدين فى أمريكا خصوصاً والغرب على وجه العموم هى رد فعل على ظواهر الجريمة والمخدرات والإغراق فى الفردية وتراجع التماسك الاجتماعى وضعف مؤسسة الأسرة وانتشار ظاهرة الإنجاب خارج إطار الزواج، وهى إفرازات الحداثة وتداعيات واقع التقدم العلمى والتطور التكنولوجى الذى قطع فيه الغرب شوطاً بعيداً ومذهلاً. أما العودة إلى الدين فى المجتمعات الإسلامية فكانت لها أسبابها المختلفة كلية، فقد استمدت هذه العودة مبررها من الشعور الجمعى لعموم المسلمين والعرب بالإخفاق الحضارى فى مواجهة الغرب القوى والمتقدم. وتعمق هذا الشعور بالإخفاق بفعل شعور آخر بالضعف والمهانة فى مواجهة إسرائيل وهو شعور غائر فى النفس العربية خصوصاً لم يسلم منه عموم الأفراد والنخب الحاكمة على حد سواء. من المفارقة إذن أن الصحوة الدينية فى الغرب بدت محاولة لتدارك سلبيات الحداثة على صعيد القيم الاجتماعية والأخلاقية بينما كانت الصحوة الإسلامية رد فعل للفشل فى تحقيق هذه الحداثة ذاتها!! (2) كان الغرب وما زال يجسد القوة العسكرية، والتقدم العلمى، والازدهار الاقتصادى، والتمدين السياسى، وهى المقومات نفسها التى يفتقدها بشدة العالمان الإسلامى والعربى، هذا هو الشعور الذى لم يسلم منه أى مسلم أو عربى وطأت قدماه أرض الغرب منذ رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وحتى اليوم. أكثر من مائة وخمسين عاماً والنخبة العربية والإسلامية تلوك السؤال ذاته: لماذا تخلفنا وتقدم الغرب؟ وخلال هذه الفترة لم ينجح المسلمون والعرب فى محاكاة النموذج الغربى المتفوق والأخذ بأسباب تفوقه. فقد كانت أولوية العالم العرب- إسلامى فى النصف الأول من القرن العشرين هى التخلص من الاستعمار الغربى، فإذا ما جاء النصف الثانى من هذا القرن تعلّق العرب بالمشروع القومى الناصرى ووجدوا فيه أملاً لتحقيق الوحدة والتنمية والتقدم. لكن جاءت هزيمة يونيو 1967 لتمثل ضربة قاصمة للمشروع القومى العربى، وسرعان ما تبدد الحلم بكامله. ولم تستطع التجارب العربية الأخرى التى تدثرت بالمشروع القومى أن تنجز شيئاً ملموساً على صعيد الاستقلال الوطنى والتحديث، بل إن بعضها، كما فى حالة صدام حسين، كان سبباً فى سقوط مدوٍ للمشروع القومى وفتح الباب أمام التدخل الأجنبى فى ديار العرب مرة أخرى، وبعد ثمانين عاماً من غزو القوات البريطانية للعراق فى عشرينيات القرن الماضى عاد البريطانيون للعراق مرة أخرى وكأن العرب وحدهم هم الذين لا يستفيدون من دروس التاريخ! هكذا بدت العودة إلى الدين إعلاناً عن فشل المشروع القومى العربى فى تحقيق الحد الأدنى من طموحات العرب السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، ولم يكن غريباً أن يتحول كثير من الناصريين والقوميين فى شبابهم إلى تبنى أفكار وتصورات إسلامية وبعضهم انتمى إلى تنظيمات إسلامية. فى الوقت ذاته كانت الأفكار والحركات الشيوعية والاشتراكية فى العالم العرب- إسلامى تعيش حالة من الشك وفقد الثقة بفعل هزيمة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفييتى وسقوط حائط برلين، ربما كان الحلم الاشتراكى قد بدأ ذبوله قبل هذه الأحداث بسنوات، ومثلما تحول كثير من القوميين إلى إسلاميين حدث الشىء نفسه مع العديد من الرفاق الاشتراكيين الذين لا بد أنهم تحلوا بشجاعة كبيرة لكى ينتقلوا من اليسار الاشتراكى إلى التيار الإسلامى وإن كان بعضهم فى انتمائه الفكرى الجديد قد أصبح على «يسار» هذا التيار! وحينما تبدد الحلمان القومى والاشتراكى على أرض العرب واستمر الشعور بالإخفاق الحضارى فى مواجهة الغرب عموماً وإسرائيل على وجه الخصوص جاءت ظواهر الفقر والبطالة بدورها لتعمّق من الأزمة.. لكن الفقر والبطالة كانا أوسع وأعمق فى تأثيرهما على الملايين من الناس، كلها أسباب وعوامل تداخلت وتقاطعت مع بعضها البعض لتهيئ مناخاً من الفراغ الحضارى وشعوراً مجتمعياً عميقاً بالإحباط فكانت العودة إلى الدين أشبه بالملاذ الذى لجأ إليه الكثيرون فى العالم العربى الإسلامى، كان أمراً عادياً أن تسمع التساؤلات وسط طلاب الجامعات وفى صفوف بعض المثقفين: لماذا لا نجرّب الإسلام وقد فشلت النظريات الأخرى؟ كانت أصداء الصيحات تتردد فى جامعة الإسكندرية فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات: إسلامية إسلامية لا شيوعية ولا غربية! (3) سبب آخر يصعب تجاهله لتفسير المد الإسلامى هو أن العالم العربى لم يعرف منذ الاستقلال الوطنى خلال أربعين أو خمسين عاماً آليات وقنوات التعبير عن الرأى فى بعض المجتمعات ولم يسمح لها بدور حقيقى فى مجتمعات أخرى. كان خوف السلطة شديداً ومبالغاً فيه من ظهور أى تيارات سياسية أو فكرية معارضة حتى فى أوساط طلاب الجامعات. وكانت النتيجة- المفارقة- أن غياب هذه الأطر والقنوات الشرعية للتعبير عن الرأى أو تحجيم دورها قد حال دون انتشار الفكر المدنى فى الوقت ذاته كانت التيارات الدينية تنتشر وتترعرع بقوة دفع ذاتى فى المساجد والزوايا والمدن الجامعية والأحياء الفقيرة فلم تحتج إلى أطر شرعية أو أحزاب رسمية. وكانت النتيجة أننا صحونا بعد خمسين عاماً لنكتشف- فى الحالة المصرية- أن نصف شبابنا ينتمى إلى أو يتعاطف مع التيارات الدينية بينما النصف الآخر مشوّش بتأثير العولمة وهو يعانى من أزمة عميقة فى الانتماء، وتقلصت إلى حد مقلق الشريحة الواعية من الشباب التى تجمع بين قيم الانتماء الوطنى والانفتاح على العالم، وهى الشريحة التى مثّلت قلب الطبقة الوسطى فى مصر حتى عقود قليلة مضت، وحين حاولنا تدارك الأمر بدا الوقت متأخراً والواقع مأزوماً والساحة خالية، ربما يحتاج المجتمع المصرى لعقدين أو ثلاثة على الأقل لكى تنتج أحزابه وأطره الشرعية تياراً قوياً من الوعى والاستنارة فى مواجهة ظاهرة المد الدينى، إنها الفترة ذاتها التى حُجِب خلالها الأول وانتشر الثانى!! [email protected]