شغفت لسنوات طويلة بالقراءة عن تاريخ مصر فى عصر سلاطين المماليك فى مصادره الأصلية، التى دوّنها كُتّاب «الحوليات» وهم المؤرخون الذين كانوا يدونون وقائع ما يحدث فى مصر يوماً بيوم أو شهراً بشهر أو حوْلاً بحوْل وتوقفتُ طويلاً أمام واقعة تتكرر كثيراً فى حوليات ذلك الزمان، تبدأ عادة بمشادة بين اثنين من العوام حول أمر من أمور الدنيا، قد يكون الخلاف حول ثمن بقرة باعها أحدهما للآخر، أو دَين يماطل فى تسديده، أو منافسة بينهما على المساحة التى يحتلها من أرض السوق، تنتهى بأن يلجأ أحدهما إلى المحتسب أو قاضى القضاة، ليبلغه بأن خصمه قد وقع بكلام فاحش فى حق الذات الإلهية، أو فى حق الرسول عليه الصلاة والسلام، فيثور المحتسب ويأمر بتجريس المتهم، فيركبونه حماراً، ويجعلون وجهه إلى مؤخرة الحمار، ويعلقون على صدره ورقة تحمل عبارة «هذا جزاء الذى كفر»، ويطوفون شوارع المحروسة، وحوله الناس يدقون الأجراس، ويجهرون بالتهمة، إلى أن يصلوا به إلى ميدان الرميلة أسفل القلعة، فيضربونه بالمقرعة، أو يجلدونه مائة جلدة. وفى إحدى المرات، أمر السلطان بسلخ متهم بهذه التهمة كما تسلخ الشياه. جمعت هذه الأخبار جميعها فى جزازات من ورق، لتكون مادة لفصل من كتاب أفكر فى تأليفه منذ أربعين عاماً بعنوان «عذاب مصر» يؤرخ لما عاناه الشعب المصرى من عذاب على امتداد تاريخه الطويل، من الطغاة والغزاة، إلى الأوبئة والطواعين، ومن المجاعات إلى جنون السلاطين.. وظللت أضيف إليها ما يقع من أحداث، كان آخرها خبراً يقول إن نيابة وسط القاهرة بدأت فى الأسبوع الماضى التحقيق فى بلاغ تقدم به 11 من محررى مجلة «أكتوبر» ضد رئيس تحريرها «مجدى الدقاق»، يتهمونه فيه بالإساءة للذات الإلهية وإلى الرسول وإلى الدين الإسلامى. تلك واقعة لم تشر إليها صحيفة، ولم يعلق عليها كاتب، وباستثناء برنامج تليفزيونى واحد، لم تجد فيها بقية البرامج ما يسلى المشاهدين، على الرغم من أن مقدمى البلاغ سعوا بها إلى هؤلاء جميعاً، فلم تستجب لهم إلا جهة علماء الأزهر، وهى منظمة وهمية لا وجود لها من الأصل، ولا يوجد عالم واحد من علماء الأزهر يتحمل بشجاعة مسؤولية ما يصدر عنها من بيانات، توقعها بخاتم انتهت صلاحيته، يحمل رقم إشهار ألغى بحكم من القضاء! وربما كان السبب الأول وراء هذا الصمت، أن العاملين فى الصحافة والإعلام يعلمون جميعاً أن أصل المشكلة دنيوى محض، وهو خلاف بين رئيس تحرير مجلة «أكتوبر» وبين عدد من المحررين يرون أنهم أحق بمواقع إشرافية شغلها غيرهم، وهى مشكلة شائعة فى كل دور الصحف ومؤسسات الإعلام، بسبب التباين بين تقدير كل إنسان لنفسه، وبين تقدير رئيس التحرير.. وهو طبقاً لأصول المهنة، صاحب الحق المطلق فى اختيار معاونيه الأساسيين طالما يمارس ذلك بدرجة من الموضوعية والمرونة، ومن دون أن يهدر أى حق للآخرين، وهو خلاف كان يمكن حله بالشكوى إلى رئيس مجلس إدارة المؤسسة، أو إلى مالك الصحيفة، وهو مجلس الشورى، أو إلى نقابة الصحفيين التى تجمع فى عضويتها بين أطراف النزاع. وإذا كان لابد من اللجوء إلى القضاء، فقد كان باستطاعة المتضررين من قرارات رئيس التحرير، أن يطعنوا فيها أمام محكمة القضاء الإدارى، أما أن يقدموا بلاغاً للنائب العام يتهمونه فيه بالكفر، فهذا تسليم منهم بأنه لا حق لهم فيما يطالبون به، وأن هدفهم هو استغلال دنيوى لاسم الله واسم الرسول واسم الإسلام كوسيلة للكيد والانتقام لا أكثر ولا أقل. وربما يكون وراء حالة الصمت والوجوم التى جعلت الصحف تتجاهل ما حدث، شعور لدى العاملين فى الصحافة والإعلام بأن الأمور فى كوكب الصحافة والإعلام تنذر بخطر جسيم، وأن المهنة التى يفخر المشتغلون بها، بأنهم يعملون فى المجال نفسه الذى كان يعمل فيه رجال من نوع رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وسعد زغلول ومصطفى كامل وجورجى زيدان ولطفى السيد وسلامة موسى وتوفيق دياب وعباس العقاد ود. محمد حسين هيكل باشا ولويس عوض ومصطفى وعلى أمين ومحمد حسنين هيكل... إلخ وصلت إلى حالة من التدهور دفعت بعض العاملين فيها إلى التصرف كما كان العوام يتصرفون فى العصر المملوكى، إذا ما اختلف أحدهم مع آخر على ثمن بقرة.. أو مساحة فرشة فى سوق الصحفجية، فيسرع للالتجاء إلى المحتسب زاعماً أن خصمه يسب الدين ويسىء للذات الإلهية، مطالباً بتجريسه وضربه بالمقرعة أو جلده فى ميدان التحرير، تنفيذاً لما اقترحه النائب الإخوانى «على لبن» أثناء مناقشة مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر، باستبدال عقوبة الحبس بالجلد فى ميدان عام! ما يدهشنى حالة الصمت التى حطت على مجلس نقابة الصحفيين، وهى حالة الصمت التى حطت على لجنة الحريات بالنقابة، وكأن الأمر لا يعنيهما.. وكأنهما ينتظران بأمل اليوم الذى يتغير فيه شعار النقابة المرسوم من صورة الكاتب المصرى الجالس القرفصاء، إلى صورة العروسة التى تنفذ عليها عقوبة الجلد فى السجون، ويتغير اسمها من «نقابة الصحفيين» إلى نقابة «المجلودين» ويفوز بمنصب النقيب بها الصحفى الكبير «على لبن».. وبذلك تكتمل فصول كتاب «عذاب مصر»!