يكتب: لقاء السيسي والبرادعي في روما في الجناح 306 بفندق "ويستن إكسلسيور" الراقي في شارع "ڤيا ڤينتو" الشهير وسط العاصمة "روما" بات الدكتور محمد البرادعي ليلة مليئة بالمفاجأت.. لم تكن أخرها إلغاء المحاضرة التي جاء ليلقيها على الأساتذة والطلاب في كلية القانون بجامعة "روما تور فيرغاتا" في واحدة من سلسلة محاضراته التي تتحدث عن الإنسانية وتهتم بسماعها معظم المجتمعات التي تحترمها. في تمام الثامنة مساءاً جاءت مكالمة هاتفية للغرفة 306 التي سكنها قبل بضع ساعات الدكتور محمد البرادعي بعد رحلة طويلة من "واشنطن" إلى "روما" مروراً بساعات الإنتظار في مطار "هيثرو" بالعاصمة الإنجليزية "لندن" وكانت مكالمة إعتذار من رئيس الجامعة مفادها إلغاء المحاضرة التي كانت ستلقى في صباح الغد لأسباب أمنية خارجة عن إرادة الجامعة.. وعرض علية كنوع من الإعتذار عن الإعتذار بأن يخصص له سيارة بالسائق يتجول بها في شوارع العاصمة الإيطالية.. ظل يستمع إلى رئيس الجامعة وهو في حالة من الذهول. لم يقل سوى كلمة "جراتسي" قبل أن يضع السماعة من يده. على الكرسي المقابل لطاولة الهاتف جلس الرجل إلى جوار نفسه يتذكر تاريخه فلم يتذكر أنه مر بمثل هذا الموقف في حياته رغم زياراته إلى بلدان مشتعلة من الداخل ولم يلغى له قط مؤتمر أو محاضرة أو مقابلة، ويتأمل في المرأة ملامحة ولا يصدق أن مثل هذا الموقف من الممكن أن يحدث في أوروبا.. هل في مثل هذه الدول تأتي مكالمة من مسؤول أمني إلى رئيس جامعة يلقي عليه أوامر وتنفذ دون مناقشة ! فرد الرجل طويل جسده النحيل على السرير الكبير الموجود في الجناح الملكي.. قبل أن يغفو ليستغرق في نومه بعد يومه الشاق.. دقت أصابع على باب الغرفة ففزع من على مشارف غفوته ومتجهاً إلى الباب، فوجد رجل تبدو عليه الملامح الإيطالية ومعه شاب مصري وسيم، تأمله جيداً فتذكره .. إنه العقيد "أحمد محمد علي" بعد الدهشة التي تصحبها ابتسامة فترحيب قلق، وتذكره بوجود الرئيس في روما وفطن إلى أنه يريد مقابلته، أذن الدكتور لهم بالدخول.. وبينما يدير ظهره ليسبقهم إلى داخل الغرفة قاطعة الشاب الوسيم قائلاً: "معاليك معزوم على قهوة مع السيد الرئيس الذي ينتظر سيادتك في قاعة الإجتماعات بالطابق الدور الرابع" من دون أدنى تفكير في القبول أو الرفض ورغم عدم مروره من قبل بمثل هذا الموقف أيضاً، طلب منهما خبرهم الإنتظار في الصالون كي يقوم بتغيير ملابسه في غرفة النوم. بينما يرتدي صاحب "نوبل" ملابسه رتب أفكاره جيداً كي يضع أمام "السيسي" كل ملاحظاته عليه وعلى نظامه وألا يعطيه الفرصة في إضاعة المقابلة بكلامه المرسل الذي لا يعبر عن أي شيء كعادته في المقابلات العامة والخاصة. خرج البرادعي من الجناح خلف الرجلين وعلى وجهه ابتاسمة تبدو كابتسامة الواثق.. وبينما هم على مشارف القاعة فُتح الباب من الداخل وظهر شاب مصري مفتول العضلات وبيده جهاز كشف عن المعادن، حاول أن يمرره على جسد البرادعي، إلا أن صوت "السيسي" الغاضب القادم من الداخل يحمل كلمة "عيب" جاء الرئيس عند الباب وعلى وجهه ابتسامة مصتنعة يعرفها الدكتور جيداً.. صافحة مصافحة تبدو وكأنها بلهفة واشتياق منذ أمد بعيد ودخلا الإثنين إلى منتصف الغرفة حول طاولة عليها فنجاني من القهوة التركية تفوح رائحتها الجميلة تدل على أنها مصنوعة من البن المحوج الغامق.. ثم أُغلق الباب بعد أن خرج الجميع وأصبح أصحاب الفخامة وحدهما. - كيف حالك يا دكتور.. حضرتك واحشني والله.. وأتأسف لحضرتك عن أن المقابلة جاءت بدون موعد مسبق وبتلك الطريقة.. لكني متأكد من أن حضرتك مقدر للظروف. نظر إليه البرادعي بابتسامة وهز رأسه لأعلى ولأسفل مرتين معبراً عن تفهمه للموقف ثم وضع قدمه اليمنى فوق اليسرى كما اعتاد الجلوس دائماً عندما يقرر أن يتحدث بصراحة واضحة وشفافية تامة. - أنا في شدة الغضب يا سيادة الرئيس. قبل أن يستطرد في الحديث قاطعة السيسي: - أنا مدرك تماماً.. وأعتذر بالنيابة عن الدولة المصرية.. لكن والله ليس لي يد في الكلام الذي يقال عن حضرتك في الإعلام.. حضرتك أكثر من يعرف كيف أحترمك وأقدرك. - أنا لا أقصد المهاترات والتخرصات والإفك الذي يقال عني.. فكان يقال في الإعلام الحكومي وأنا نائب للرئيس، وقيل أكثر من هذا وقت مبارك ومرسي.. أنا أقصد التغيير الذي تصر أنت ورجالك على وأده.. رغم كل الأمال التي انتظرتها الناس - يا دكتور محمد حضرتك من المؤكد ترى الوضع الداخلي والإرهاب الذي يقوم به المتطرفين من أنصار مرسي، ويلزمه قبضة الأمنية قوية كي نتخلص من تلك التوترات ونبدأ العمل الحقيقي.. وأنا أعلم ان حضرتك ستقول انك حذرت مما يحدث مسبقاً، لكن القرار أتخذ وقتها بالأغلبية وحضرتك تعلم هذا" - وأيضاً قلت أن الحل الوحيد كما يقول التاريخ هو المصالحة والعدالة الإنتقالية.. وأرواح الناس لا يجب أن تزهق وفقاً لقرارات أغلبية وأقلية يا سيادة الرئيس.. وقلت لكم هناك أبرياء سيموتون دون ذنب سوى انهم مغلوبون على أمرهم والفقر والجهل جعلهم أسرى في يد من يطعمونهم.. لكن العنترية وغريزة الإنتقام عند بعضكم هي التي سيطرت قراراتكم - القهوة بردت يادكتور هكذا أراد السيسي أن يمتص غضب الحليم الحالم الجالس أمامه.. كي لا ينفعل هو الأخر أيضاً، ومن ثم سينتهي اللقاء دون أن يحصل على ما يريد. وبينما يرشف البرادعي أول رشفة من الفنجان الأبيض المزخرف يدوياً بنقوش تعود إلى خمسينات القرن الماضي.. فاجأة السيسي قائلاً: - كيف حال أحفاد حضرتك يادكتور. رمقه البرادعي رمقة تقدير لمحاولته تهدئة ما يظنه الأخر حدة نقاش ويؤمن هو بأنها صراحة متأخرة وواجبة.. وهز رأسه بابتسامة تنم عن أنهم بخير. - ما هي علاقة وجود رجال مبارك حولك في السلطة بالإرهاب ومحاربته رغم وجود كفاءات حقيقية خارج إطار نظام مبارك السابق. - حضرتك على علم بأن فترة الثلاث سنوات الماضية لم تكن مستقرة بالمرة وظهر على الساحة أناس لم نكن نعلم عنهم أي شيء.. فكان يجب العودة إلى يوم 24 يناير 2011 لأنها أول نقطة ثابتة نستطيع أن نبني عليها.. وفي الفترة القادمة سوف نقوم نغير الوجوه القديمة بوجوه جديدة مع الحفاظ على الإطار العام للدولة. - لماذا لم تدعو إلى انتخابات البرمان حتى الأن؟ - حضرتك مدرك الحالة الأمنية كيف هي ولا تسمح بأي تجمع انتخابي خاصة وان الجيش هو المنوط به تأمين اللجان وهذا سوف يأثر على الحدود المصرية وحضرتك ترى ان الدنيا من حولنا ملتهبة وأخرها "داعش" التي ظهرت فجأة. - هل هذا يعني أن التأخير ليس لهعلاقة بالقوانين التي تسنها الحكومة وترفعها لسيادتك كي تصدرها.. وتخشى إن يكون مجلس النواب عقبة في اصدارها، فقررتم التأجيل إلى الإنتهاء منها؟ - هل تعلم أن الحكومة بصدد تعديل قانون التظاهر؟ هكذا أجابه السيسي على سؤاله بسؤال أخر ليس له علاقة بالإجابة. - بمناسبة قانون التظاهر، سيتم الإفراج عن شباب الثورة.. ألا يكفي ما تفعلوه بهم حتى.. وأنتم تعلمون جيداً انهم ليسوا ارهابيين ولا حتى من الإخوان ويكرهون مرسي.. حرام الظلم.. أنتم تصرون على دفعهم إلى المعسكر الأخر وهم لا يريدون.. لكن العند يولد الكفر، والعنف يولد العنف. صمت السيسي للحظات وكأنما يحاول أن يرتب كلماته كي تبدوا كما يريد دون أن يفهم البرادعي مغزاها.. لكن غلبه ما في قلبه على عقله فأطلقها كما هي: - "هل تعتقد يا دكتور أن المساومة ممكن أن تحدث الأن.. أقصد المصالحة التي تحدثت عنها.. وأنا أيضاً لم أكن أريد إراقة الدماء.. لكن حضرتك تعلم بأنه كان قرار جماعي" رغم أن الدكتور البرادعي جاء في خاطره وهو يغير ملابسه أن طلب الرئيس السيسي لمقابلته ينم عن نية مصالحة يريد عقدها مع الإخوان بعد أن فشلت جميع المحاولات الأمنية.. إلا أنه فوجأ بكلام السيسي، خاصة عندما رد عليه خاطره مره أخرى بأنه أخر شخص ممكن أن تتحدث معه الدولة وخاصة السيسي عن المصالحة. رفع الإثنين فنجاني القهوة في نفس اللحظة ورشفا كل منهما الرشفة الأخيرة.. ثم طلب الدكتور من المشير بأن يسمح له بفنجان أخر.. فضغط المشير على زر صدر عنه صليل جرس خارج القاعة فدخل طاقم حراسة من ستة أفراد.. وقال بصوت خافت متوتر: - ”اطلبولنا اثنين قهوة مظبوط.. بسرعة" بعد لحظات من الصمت المتحفز جراء استحضار ترتيب كل منها كلماته كي تكون أكثر وضوحاً سأل البرادعي: - هل حقاً عزمتم النية على مصالحة حقيقية وعدالة انتقالية أم أنها مجرد محاولات لتهدئة الشارع؟ - نريدها مصالحة وعدالة انتقالية. - إذاً فالنبدأ بالقانون.. من المقترض إن كل شيء يتم بشكل قانوني كي تنطبق عليه المشروعية والشرعية الكاملة.. بداية من اصدار قانون وليس نهاية بأليات تنفيذه.. فبما أن حضرتك تمتلك السلطة التشريعية الأن عليك تشكيل لجنة من الخبراء المصريين أو من أساتذة القانون في العالم والدارسين والمنفذين لمثل تلك المشاريع القانونية الهامة.. يتقدموا بمشروع قانون لا يتعارض مع الدستور ومن ثم تبدأ الدولة أليات التنفيذ. - تعتقد ان الجماعة ستعتبر هذا ضعف من الدولة ؟ - كل انسان له قناعاته ومعتقداته الراسخة التي لا يمكن التنازل عنها بسهولة، لكن بحكم رؤيتي للمشهد وللتاريخ فدعني أؤكد لك أن الجماعة تنتظر هذا منذ عام مضى وما تفعله في الشارع ما هو إلا وسيلة ضغط على الدولة لتبسط يدها اليهم وتدعوهم إلى العودة للمشاركة السياسية والإجتماعية. - وبالنسبة للشعب المصري.. هل تعتقد أنه سيوافق على التصالح مع هؤلاء رغم كل ما حدث؟ - الشعب المصري بطبيعته كما ذكرت مراراً له طبيعة خاصة، فالتسامح صفة سائدة عند غالبيته، واذا نظرنا الى التشابك الإجتماعي فسنجد أن كل أسرة بها فرد يساري وأخر ليبرالي وأخر إسلامي، ومع ذلك تجدهم أسرة في الغالب مترابطة ومتماسكة.. فلا قتلق من هذا الأمر خاصة عندما يقوم الإعلام بدوه الهام في عملية المصالحة المجتميعة. فجأة توقف الحديث عندما دقت أنامل مرتين على باب القاعة وأذن الرئيس بالدخول، وإذ بسيدة جميلة شقراء تدفع عربة خشبية يصدر عنها رنين إهتزاز الفناجين على أطباقها.. قدمت القهوة ثم تراجعت للخلف ووجهها للقاعة حتى خرجت وأغلق الباب. رشف كلاهما رشفة واحدة ثم شرع الرئيس في الحديث قائلاً على استحياء: - ألا تريد أن تقود عملية التصالح بنفسك؟ ضحك الدكتور ضحكة مهذبة تنم عن مزيج من الدهشة و الحسرة على مجهوداته التي ضاعت في سبيل تحقيق هذا الأمر عندما كان نائباً لرئيس الجمهورية.. ثم قال بهدوء تام: - لم أعد أصلح لهذا الأمر.. فمحاولات التشويه التي قادها الإعلام ضدي سوف تأثر سلباً على تقبل فئة كبيرة من الشعب للفكرة، والبعض الأخر سينصب سخطه على الدولة التي أضاعت الوقت وأراقت الدماء من الطرفين وكان بمقدورها أن تتجنب هذا إذا ما تركتني أنتهي من مهمتي في الماضي.. أنا أتحدث أليك بصراحة. - أنا أتفهم تماماً الموقف.. من ترجح لي كي يقود تلك المهمة الصعبة؟ - الشباب. - أي شباب؟ - الشباب الذين أخذوا على عاتقهم 25 يناير و30 يونيو.. فهم الأعلم والأدرك بالمداخل النفسية والسياسية لأطراف العملية السياسية.. ولن يقبلوا بفكرة الإبتزاز منهم أو عليهم.. والدولة تعرفهم جيداً وتعرف أنهم أصدق وأنقى من يعيشون على أرض مصر. مسح "السيسي" برفق بيده على شعره من اليمين إلى اليسار مرات وكأنما يتدبر ما يسمعه.. رغم أن جزءاً كبيراً مما سمعه كان يتوقعه جيداً لكن السرد والترتيب جعله يراجع موقفه كله.. وبعدما عجز أن يجد مفر من هذا الحل الوحيد استسلم لما أنصت وقال مبتسما وبهدوء تام كأنه وجد ضالته: - اسمحلي يا دكتور أن أعتذر لك مرة أخرى بالنيابة عن الدولة المصرية.. لكن عزاءنا الوحيد هو تفهمك للتوتر الذي تمر به الدولة منذ أعوام مضت. فابتسم صاحب نوبل قائلا: - لا عليك يا سيادة الرئيس فكما قلت لقد اعتدت على ذلك الأمر.. ولكني سأتقبل الإعتذار الحقيقي عندما تبدأ في أولى خطوات المصالحة.. وهي أن تهيأ الدولة المناخ العام لها أمنياً وإعلامياً. لملم الدكتور متعلقاته من على الطاولة وبدا وكأنه يستعد للرحيل.. فاندهش الرئيس قائلاً: - القهوة يا دكتور. فوقف البرادعي من مكانه وقال: - نستكمل شربها لاحقاً في مكان أخر عبر لقاء قريب نتحدث فيه عما أنجز في المهمة الصعبة التي أنت بصدد تنفيذها. لحقه الرئيس بالوقوف مبتسماً.. ثم ودعه على باب القاعة قائلاً: - سعدت بلقائك وأتمنى أن تفكر مرة أخرى في العرض الذي عرضته عليك. ابتسم البرادعي وقال: - المعروف عني أني لا أغير فكري طالما هو بوازع من ضميري.. إلى لقاء قريب. توجه البرادعي إلى غرفة النوم بعد أن شعر بأرهاق شديد وفرد جسده على السرير مرة أخرى وغرق في نومٍ عميق لم يوقظه منه سوى مضيفة الطائرة عندما طلبت منه إعادة المقعد إلى وضعيته الأصلية، وربط حزام الأمان إستعداداً للهبوط المؤقت في مطار "هيثرو" كي يقضي إجازة قصيرة مع أحفادة في العاصمة الإنجليزية.. لندن. المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية