في إحدى قاعات محكمة قرب القاهرة يجلس القاضي لينظر واحدة من سلسلة القضايا المتهم فيها عناصر من جماعة الإخوان المسلمين ومن فوقه لوحة عليها آية قرآنية تأمر بالعدل.. "بسم الله الرحمن الرحيم.. إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل." لكن المشاهد الفوضوية داخل القاعة قد لا توحي بأن العدل سيكون هو سيد الموقف. داخل قفص معدني وقف 33 عضوا بجماعة الإخوان التي تولت مقاليد السلطة لفترة وجيزة قبل أن تصبح الآن جماعة محظورة. من بينهم كان محمد بديع المرشد العام للجماعة. أصبحت الجماعة محظورة بعد أن عزل الجيش الرئيس المنتخب محمد مرسي الذي حكم باسم الإخوان المسلمين لعام شهد الكثير من القلاقل والاضطراب. وجماعة الإخوان المسلمين هي أكثر التنظيمات الإسلامية تأثيرا في العالم وتسببت المواجهة بينها وبين السلطات المدعومة من الجيش في مصر في انقسام لم يحدث منذ تأسيس الجماعة في مصر عام 1928. وبينما كان أعضاء الجماعة محتجزين داخل القفص بزي الحبس الاحتياطي الأبيض خلال نظر اتهامات يمكن أن تصل عقوبة بعضها إلى الإعدام أخذوا يرددون سلسلة من الهتافات بدءا من "الله أكبر" وانتهاء بعبارة "يسقط يسقط حكم العسكر". وبدت علامات الضجر على القاضي ذي الشارب الكث والنظارة الداكنة وهو يهزأ من طلب المحامين معاملة موكليهم بقدر أكبر من الاحترام. وبتعبير فظ.. أمر القاضي المتهمين والمحامين بالسكوت. ثم تفجر شجار وتدخلت مجموعة من أفراد الشرطة لتفصل بين الإخوان المحتجزين والمحامين والصحفيين. وبعدها قال بديع إن الشعب لن يقبل "بمستبد عسكري" في إشارة إلى المشير عبد الفتاح السيسي الذي عزل مرسي في يوليو تموز الماضي بعد احتجاجات شعبية حاشدة مطالبة برحيله. واستقال السيسي من منصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة للترشح في انتخابات الرئاسة المقررة يومي 26 و27 مايو أيار. وقبل إسدال الستار على هذه الفوضى القضائية توقع المرشد العام للإخوان أفول نجم السيسي رغم التوقعات الكاسحة بأنه سيفوز في انتخابات الرئاسة. * وميض ذكرى من عهد مبارك كان الظن هو أن مثل هذه المشاهد ستنتهي بتنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك رضوخا لصوت الجماهير في ميدان التحرير عام 2011. لكن ما يبدو الآن هو أن التاريخ يعيد نفسه مع سعي الجيش للإجهاز على أي قدرة قتالية للإسلاميين. في التسعينات واجه حكم مبارك الشمولي المدعوم من الجيش -والذي كان بمثابة استمرار لدولة بوليسية أرساها جمال عبد الناصر عندما أطاح بالملكية عام 1952- تمردا إسلاميا استهدفه ووزراءه والسائحين. وخلال حكم مبارك الذي امتد 30 عاما أصدرت محاكم عسكرية أحكاما بالإعدام على 90 متشددا إسلاميا تم تنفيذ 68 حكما منها. وخلال التسعة أشهر الماضية أصدرت محكمة مصرية حكما بإعدام 529 إسلاميا. لم يحدث قط أن كانت مصر بمثل هذا الانقسام الذي هي عليه الآن. قتل أكثر من ألف من أنصار مرسي بعد عزله في يوليو تموز الماضي وزج بنحو 16 ألفا من الإخوان وقيادات الحركات الشبابية التي أشعلت انتفاضة ميدان التحرير في السجون. ويتفق المسؤولون في أحاديثهم الخاصة على أن مصر ليست بحاجة لقبضة حديدية وحسب بل ولنظرة مستقبلية شاملة جديدة تتضمن إدخال تعديلات على المؤسسات الدينية والسياسية. ويقول متابعون للشأن المصري عن كثب إن الغضب المكبوت بين شباب ميدان التحرير عرضة للانفجار مجددا إذا لم ينجح السيسي أو حكومته القادمة في توفير فرص عمل في بلد يحوي 85 مليون نسمة مما يجعله أكبر بلدان العالم العربي من حيث عدد السكان. قال دبلوماسي أوروبي "من المعروف عن هذا البلد أنه يتحول بسرعة شديدة" مضيفا أن السيسي ربما يكون اليوم بطلا في عيون كثيرين ثم ما يلبث أن تتغير الآراء حوله وأنه هو نفسه يعرف هذا. وأضاف "هو في موقف لا يحسد عليه." وتكاد تكون المؤسسة الأمنية قد أجهزت على كل المعارضة.. الإسلامي منها والعلماني. وبالإضافة إلى مئات الإسلاميين الذين حكم عليهم بالإعدام كان هناك ما يقرب من الألف مثلوا أمام المحاكم. ويقول محامو الدفاع إن القضاء المصري يصدر أحكاما ذات دوافع سياسية للقضاء على الإخوان الذين فازوا بسلسلة انتخابات بعد سقوط مبارك. * حلم بعيد؟ ومع الحملة الأمنية التي تعتبر أشرس حملة شهدها التاريخ المصري الحديث يتأجج تمرد إسلامي عنيف في البلاد. فمنذ عزل مرسي وهجمات المتشددين تمتد من شبه جزيرة سيناء إلى المدن التي شهدت استهداف الشرطة وأجهزة الأمن والقضاة. ويقول النشط والمدون علاء عبد الفتاح الذي كان في قلب أحداث ميدان التحرير عام 2011 ويحاكم الآن بتهمة التظاهر دون تصريح إن مصر أصبحت الآن مكانا مظلما. وقال إن البلد أصبح الآن أشد بوليسية مما كان عليه في عهد مبارك وإن العنف والقمع والفساد والسيطرة العسكرية المباشرة بلغت مستويات لم يسبق لها مثيل مضيفا أن الحال الآن أسوأ كثيرا مما كانت في عهد مبارك. ومضى قائلا "الأمل الذي بعثه سقوط مبارك أصبح ذكرى بعيدة." وأشار إلى أنه سيتعين على السيسي أن يحل مشاكل ضخمة لن تتبخر. وقال إن الشباب يائس "وهم لا يقدمون شيئا. لا مستقبل ولا وظائف للخريجين ولا سبيل للخروج" من النفق المظلم. وينهال الإطراء على السيسي من غالبية المصريين الذين يرون فيه مخلصا بعد ثلاثة عقود من حكم مبارك وثلاثة أعوام عاصفة أعقبت تنحيه. وهم يرون فيه الرجل الذي سيحسن أحوالهم. قال خالد داود المتحدث باسم حزب الدستور الليبرالي "الناس في الشارع يقولون لي.. لا تكلمنا عن الديمقراطية.. كلمنا عن لقمة العيش." وتظل الضغوط الاقتصادية في مصر -حيث يعاني ملايين من الفقر والبطالة- هي أخطر ما يهدد استقرارها. * تمرد متصاعد يقول السياسيون إن السيسي يدرك خطورة الموقف لكنه يعول على قادته العسكريين وعلى جهاز المخابرات الحربية في تلقي المعلومات عن حال البلد. وأصيبت المؤسسة بحالة من الصدمة حين قاطعت شريحة من النشطاء الشبان استفتاء على دستور جديد أعدته لجنة شكلتها الحكومة المؤقتة المدعومة من الجيش. وتنتاب البعض مخاوف من أن يفجر صعود السيسي للرئاسة مزيدا من الاحتجاجات بين الإسلاميين مما قد يحضه على استخدام القوة لإسكات كل الأصوات المعارضة. قال داود "حين يصبح السيسي رئيسا لن يتوقف الإخوان عن الاحتجاج ولن نرى أي تخفيف للحملة الأمنية. ومادمنا نفتقر للاستقرار سنفتقر للانتعاش الاقتصادي." وقال نائب رئيس الوزراء السابق زياد بهاء الدين -الذي كان من الشخصيات المعتدلة في الحكومة المؤقتة- إن مستقبل مصر سيعتمد على إعادة بناء توافق وطني على قضايا منها عجز الموازنة الذي يقدر بنسبة 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ومنها دعم الوقود الذي يلتهم ربع الميزانية ومعالجة الفقر الحاد مع الحفاظ على النمو. وقال إن مصر في حالة انهيار تام ولن يمكن فعل شيء ما لم يكن هناك خط وطني. ويدافع السيسي عن حملته الأمنية قائلا إن عليه أن يستأصل شأفة الإرهاب ويحمي المصالح الوطنية والاقتصاد بما في ذلك القاعدة الصناعية التي تضررت بقوة جراء انعدام الاستقرار. ويرجع تاريخ المعركة مع الأصوليين في مصر إلى 60 عاما. وقد حاول الرئيسان عبد الناصر والسادات سحقهم لكن الحملات الأمنية فشلت في كل مرة في استئصال الإسلام السياسي. والمواجهة مع الإخوان تنطوي على صعوبة خاصة نظرا لما يتمتعون به من قاعدة شعبية أوسع. فقد انخرطت الجماعة في أنشطة اجتماعية وانتشرت في النجوع والقرى. * الدخول في آلة الزمن تتهمهم السلطات المصرية بإذكاء تمرد جهادي وهو اتهام تنفيه جماعة الإخوان. من يعملون مع السيسي يقولون إنه لم يعزل مرسي ليحقق مطامح شخصية في الرئاسة لكنه وجد أن لزاما عليه أن يتدخل في مرحلة حاسمة من تاريخ مصر. وهم يصفونه بأنه براجماتي تحرك بناء على ما يراه في خدمة الصالح العام. وهو يعتبر الجيش المؤسسة الوحيدة التي يعول عليها في حماية مصر والعبور بها خلال مرحلة حاسمة من تاريخها والحيلولة دون انهيار النظام بأسره. ويقولون إنه يحرص لهذا على متابعة مسار مساعدات بمليارات الدولارات تلقتها مصر من الخليج بعد عزل مرسي ويعتزم الإشراف على موجة استثمارات تأمل مصر في تدفقها من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وقال الدبلوماسي الأوروبي "لا أظن أن السيسي كان لديه مخطط منذ البداية لإزاحتهم عن السلطة والإمساك بزمام الأمور. بل إن تطور الأحداث -كانت هناك أزمة سياسية ونزل الملايين للشوارع- هو الذي جعل الجيش يشعر بأنه ما من خيار." وفيما يتعلق بما هو قادم.. هناك إجماع بين الدبلوماسيين ربما يمتد إلى بعض السياسيين على أن الحل العسكري لن يحل المشكلة وإنما سيزيدها سوءا. لكن جماعة الإخوان عازمة على إظهار نفسها على أنها الضحية التي سلب منها حق مشروع بدلا من أن تتعلم من أخطائها وتتفاوض من أجل العودة إلى الساحة السياسية. وقال الدبلوماسي الأوروبي "جماعة الإخوان المسلمين عنيدة ومتحجرة. هي بحاجة لأن تتغير وتنتقل إلى سياسة جديدة. مازالت عند النقطة التي كانت عليها قبل يوليو. إنها محبوسة في خندق." غير أن العديد من المصريين لا يثقون في الجيش كذلك. قال داود "جربنا الجيش طوال 60 عاما وما الذي وصلنا إليه؟ الفساد.. غياب الرعاية الصحية المناسبة أو التعليم اللائق وغياب السلطة الحقيقية أو الأحزاب الفعلية. كانت هذه إنجازات مبارك .. فلماذا تريدون أن نعيد الكرة؟"