عمرة الروح في الحرمين الشريفين فى اللحظة التى نظرت فيها الكعبة لعينى، تعطلت الحواس، انمحت الهوية، كنت لقيط الكون وضعته يد الرحيم فى المثابة، تتلقفنى آلاف الأكُفِّ حول البيت العتيق، تدثِّرنى بالأبيض غير المخيط، حتى بات كل الطائفين والعاكفين والبادين والقائمين والرُّكع السجود آبائى، وحين انعطفت إلى المعية كنت الرعية.. زادى تسابيح، وكلئى استغفار وأمنى ذكرٌ ودعاء. فى هذه اللحظات رأيت بعين اليقين مولدى طفلاً يسعى عارى القدمين.. مكشوف البصيرة، أنطقَ ذو الجلال والإكرام لسانى بالشهادتين.. ترطبت شفتاى وأعشب فمى، فانكشف الكفن عن كتفى الأيمن، ليبدأ طوافى.. بكيت فى استلام «الحجر» حتى ابتل صدر إحرامى.. انتحبت فى «المقام» فامتدت الأيادى تهدهدنى، امتزج التكبير بالعويل عند «الحجر» فحملنى الرخام إلى الركن اليمانى نهنهة، ثم أفقت بعد سابعة الطواف على جسد تكبلت يداه وقدماه بقيد التحرر من ذل الذات إلى عز العبودية.. فماذا بعد صوم الجوارح وتعطل الحواس غير إفطار الحى على أصل كل شىء حى؟ التقمت روحى العطش ثدى زمزم فنهلتُ وعببتُ حتى ارتوت شرايين مضغتى، وكانت أفئدة من الناس تهوى حولنا فى صلاة المقام. استقوى الضعيف بالتكبير والتلبية، فحملته أجنحة البيت المعمور إلى أول السعى حبواً فمشياً فهرولة.. فى أول الأشواط كانت الصفا روضة والمروة مرجاً من الزهور، وفى سابع الأشواط كنت كمن يمشى على الماء.. حضر القلب وظل الجسد غائباً، إلى أن صادفته فى مرآة الحلق والتقصير، ممسوح الرأس، تكسوه سحائب التسليم. عند باب الشوق فى مدخل المدينةالمنورة طلع البدر علينا من ثنيات الوداع، فوجب الشكر على نعمة الزيارة ورجاء القبول. هرولت لمسجد خير الأنام، انكشفت القبة الخضراء لعينى فأخذتنى سنة من سكرة المبتول، أسلمتنى الصفوف للصفوف فى خط مستقيم حتى رأيتنى بعلم اليقين بين بيت الحبيب ومنبره، أقسمت على الله أن يفسح لى موضعاً للصلاة فأبرَّنى مرتين، وكنت فى غير الصلاة ذاهلاً لا أقوى على المشاهدة فمن ذا الذى يحتمل وجوداً فى الجنة بجوار الرسول ومنبره وصاحبيه الصديق والفاروق؟ حاولت تارة أخرى حتى انشقت سماء مقلتي، فعدت من باب السلام أكرر الوقوف على سندس جنة المأوي، فاحتوتنى السماوات والأراضين، ولم أدر هل أُصلِّى أم يصلَّى عليا. تتلاشى الآن تفاصيل الحياة والإجراءات خارج الحرمين، وليس سوى الشوق للرجوع، وشد الرحال.
هل يرحل قوس الكمان؟ 30 مايو، 2010 آه من هدير البحر لمَّا يزوم.. آه من فحيح الريح لمَّا تقوم.. بهذه الكلمات للشاعر سيد حجاب بدأ تتر المسلسل الجديد، يتصدر الشاشة مشهد ارتطام الموجات بشاطئ ساكن يحتوى رمالاً هادئة ناعمة، يوقظها الموج فى غفوتها، تاركًا خلفه بذور لقاح الريح فى الزبد. فى هذه اللحظة يظهر اسم المسلسل مصحوباً باسم مؤلفه "وقال البحر".. قصة وسيناريو وحوار أسامة أنور عكاشة. وكأنه الغيث الذى أنتظره الجدب، فتمخضت له الأرض عشبًا وشجرًا ونخلاً.. هكذا كان أسامة منذ تفجرت ينابيع إبداعه على الشاشة العطشى، فشرب الجمهور حتى ارتوى طيلة أكثر من ثلاثين عاماً. ولم يكن عكاشة مجرد «دراماتورجى» كما يقول عن نفسه، مثلما لم يكن محفوظ روائى اً فحسب أو هيكل مجرد جورنالجى، فكتابة السيناريو أداة فى معركة الوعى الكبرى التى خاضها عكاشة فى كل أعماله التليفزيونية والمسرحية والسينمائية، فمساحة الدراما كانت أشبه بميدان الحرب، اهتم أسامة كقائد ميدانى بتوفير كل أسباب النصر بداية من المخرج العبقرى إسماعىل عبدالحافظ، مروراً بفريق العمل الذى يمكن وصفه ببساطة.. إنهم يشبهون الناس العاديين، الذىن نراهم حولنا فى كل مكان ومن ثم استطاع عكاشة تحوىل الشخصيات العادية والبسيطة إلى أبطال، ففى ساحات القتال لا مجال للأفنديات أصحاب الياقات البيضاء ولا الباشوات المنتفخة أدراجهم.. وكان طبيعياً أن ينتصر الكاتب العظيم لهؤلاء البسطاء وهو يخوض بهم أعنف صراع درامى شهدته ساحات الفن خلال العقود الماضية، وفى انحيازه للشخصية المصرية بعمقها الشعبى الإنسانى وبأصالة معدنها، لم يبرئها من العيوب والهفوات لأنه يكره الشخصية النمطية سواء بشكلها الإيجابى أو السلبى، لكنه يظهر معدن الشخصية فى اللحظات الصعبة كما فعل مع معظم أبطاله الشعبيين وبشكل خاص مع «حسن أرابيسك». والعمل عنده لا يأخذ خطاً واحداً كاللحن الميلودى، بل كانت ساحته الدرامية تسمح بالتعدد والتنوع، تحول الهامش إلى متن والعكس، وهى قيمة ذات بعد ديمقراطى، فالمجتمع عند أسامة سيمفونية تتعدد آلاتها وتشكيلاتها اللحنية، لكنها تصنع فى النهاية تكاملاً نغمياً يؤدى وظيفة ورسالة معينة. وكان قوساً للكمان يعزف فى كل «سحبة» نغمة جديدة تصيبنا بالدهشة والحيرة حول قدرته الفذة فى الدخول إلى عوالم جديدة، ففى كل مرة ينتهى فيها من عمل خاصة إذا كان متعدد الأجزاء، يتساءل البعض: ما الجديد الذى يمكن أن يضيفه أسامة بعد ليالى الحلمية؟ أو بعد «الراية البيضاء» أو «أرابيسك» و«الشهد والدموع» و«زيزينيا» أو «البشرى» أو «امرأة من زمن الحب» أو «كناريا» و«عفاريت السيالة»، وفى كل مرة تكتشف أن معينه لا ينضب، وأتصور أن أعماله مازالت قابلة للاستمرار والاكتمال، إذا حاول أى سيناريست التقاط أى خيط درامى صغير فى أحد أعماله محاولاً إكماله فى عمل جديد. كان بودى الحديث عن صحبة الراحل الكبير فى شقة الإسكندرية ومقاهى القاهرة وريف القلىوبية والشرقية وحواراتنا الطويلة فى شقته بحدائق الأهرام أو عبر التليفزيون، لكنى لم أشعر بفقده بعد، حتى يتحول الكاتب الكبير إلى خانة الذكريات.. فهل يرحل قوس الكمان؟