يبدأ الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند اليوم زيارة رسمية إلى تركيا، لمدة يومين، تعد هي الأولى من نوعها منذ وصوله إلى سدة الرئاسة الفرنسية في مايو 2012، كما أنها الأولى لرئيس فرنسي منذ تلك التي قام بها الرئيس فرنسوا ميتران عام 1992 وافتتح خلالها جامعة "جالاتا ساراي" الفرنسية في اسطنبول، والتي مثلت حجر الأساس في التعاون الفرنسي التركي. ويرافق الرئيس أولاند في زيارته هذه مجموعة من الوزراء على رأسهم وزير الخارجية لوران فابيوس، ووزير الإصلاح الإنتاجي ارنو مونتبور والدفاع جان ايف لودريان، إضافة إلى وفد مؤلف من نحو أربعين شخصا من المسؤولين في المجال الاقتصادي ورجال الأعمال. ومن المقرر أن يتناول الرئيسان في مباحثتهما مسار العلاقات الثنائية بين البلدين سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، بالإضافة إلى تبادل وجهات النظر حول الاتحاد الأوروبي والقضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك لاسيما الأزمة السورية والقضية العراقية والبرنامج النووي الإيراني. ويتوقع أيضا أن يتم التوقيع خلال الزيارة على سلسلة من الاتفاقات في مجالات النووي المدني والبنى التحتية ومكافحة التزوير. كما من المقرر أن ينتقل الرئيس الفرنسي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في اليوم الثاني من أنقرة إلى اسطنبول لحضور فعاليات منتدى الأعمال التركي الفرنسي. ويتوقع فريق من المراقبين أن تشكل زيارة أولاند هذه نقلة نوعية في العلاقات الفرنسية التركية، وأن تضع حدا لحالة الجفاء والتوتر التي سادت بينهما طوال السنوات الماضية. ويستند هذا الفريق في رؤيته إلى التحسن النسبي الذي شهدته علاقات البلدين منذ وصول أولاند إلى الحكم في مايو 2012. فمنذ الإعلان عن فوزه في السباق الرئاسي على منافسه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي ربطته علاقات متوترة مع تركيا، أعلنت الأخيرة ترحيبها بالرئيس الجديد وأبدت تفاؤلا بشأن إمكانية حدوث انفراجة في علاقات البلدين. وبالفعل أعلنت تركيا رفع العقوبات التي فرضتها ضد فرنسا والتخلي عن تعليق التعاون السياسي والعسكري بين الجانبين، والذي كانت قد قررته بعد اعتراف البرلمان الفرنسي، في عهد الرئيس ساركوزي، بوقوع مجزرة بحق الأرمن على أيدي الأتراك بين عامي 1915 و1916 والتصويت على قانون يجرم إنكار المذبحة الأرمنية. وجاء القرار التركي برفع العقوبات عن فرنسا في أعقاب لقاء جمع أولاند وأردوغان على هامش قمة مجموعة العشرين التي أقيمت بريو دي جانيرو في يونيو 2012. ودعا أردوغان وقتها الرئيس الفرنسي إلى زيارة بلاده وهو ما اعتبره أولاند بمثابة "امتيازا له" مؤكدا ترحيبه بالدعوة. وأعتبر ذلك إشارة واضحة على رغبة تركيا في طي صفحة العلاقات السيئة التي شابت ولاية الرئيس ساركوزي طوال خمس سنوات. وفي المقابل رفعت باريس العام الماضي اعتراضها على واحد من خمسة فصول في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، كان الرئيس السابق ساركوزي وضع عليها الفيتو، وهو الفصل الثاني والعشرين الخاص بالمساعدات الاقليمية. إضافة لذلك نجحت الشركات الفرنسية خلال عام 2013 في إبرام عقود بقيمة 15 مليار يورو في تركيا، وكان من أبرزها قيام الكونسورتيوم الفرنسي الياباني في مايو الماضي بالتوقيع على اتفاق مع تركيا لبناء ثاني محطة نووية في مدينة سينوب المطلة على البحر الأسود. ويذهب فريق آخر من المراقبين للقول بأن هناك مبادئ عامة تحكم الموقف الفرنسي إزاء تركيا يصعب تغييرها مؤكدين أن الرئيس أولاند لا يختلف كثيرا عن سلفه ساركوزي. ويستند هذا الفريق في رأيه إلى عاملين، الأول هو موقف أولاند إزاء انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والذي لا يزال يكتنفه الغموض إلى حد كبير. فعلى الرغم من رفعه الاعتراض على فصل من فصول مفاوضات الانضمام غير أن باريس لاتزال معترضة على فصول مفاوضات الانضمام الأربعة الباقية والمتعلقة بالحقوق الأساسية والقضاء والحرية والأمن. كما أن أولاند كان يؤكد دوما على أن مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لن تطرح خلال السنوات الخمس لولايته حيث بروكسل أكدت أنه لا انضمام لتركيا إلى الاتحاد حتى عام 2020. إضافة لما سبق فإنه يصعب على الرئيس أولاند تبني موقفا مغايرا لموقف سلفه ساركوزي إزاء قضية الانضمام هذه لأن غالبية الفرنسيين يعارضون بشدة هذا الانضمام ويترصد اليمين واليمين المتطرف الحكومة الاشتراكية في أي خطوة قد تساعد في إحداث تقدم في عملية المفاوضات. أما العامل الثاني الذي يكشف تقارب المواقف بين أولاند وساركوزي هو قضة إبادة الأرمن التي لعبت دورا رئيسيا في توتر علاقات ساركوزي بتركيا. فعلى الرغم من أن المجلس الدستوري قد أبطل قانون صوت عليه البرلمان الفرنسي لتجريم إنكار إبادة الأرمن في عهد ساركوزي غير أن الرئيس أولاند وعد بإقرار قانون يعاقب كل من ينكر هذه الابادة مؤكدا على ضرورة البحث عن طريق يسمح بتمرير النص القانوني بعد أن برر المجلس الدستوري قراره ببطلان القانون بأنه يصادر حرية التعبير التى يكفلها الدستور الفرنسي، وهو ما يلقي بالشكوك حول مصير أي قانون مشابه عند الطعن في دستوريته. ويعيش في فرنسا نحو 500 ألف شخص ذي عرقية أرمينية، وتُعد واحدة من أكثر من 20 بلدا اعترفت بشكل رسميٍّ بأن عمليَّات قتل الأرمن كانت "إبادة جماعيَّة" حيث أقرتها عام 2001 قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مما تسبب في إفساد العلاقات الودية بين البلدين وأدى إلى قيام تركيا بسحب سفيرها من باريس احتجاجا على إقرار مجلس النواب لهذا القرار. وبناء على ما سبق يرى هذا الفريق أن أولاند لا يختلف كثيرا في مواقفه ولكنه يبدو أكثر مرونة من ساركوزي الذي كان يتخذ موقفا معاديا بوضوح إزاء الدولة التركية. فحتى قبل وصوله إلى سدة الرئاسة الفرنسية عام 2007 جعل ساركوزي من رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أحد دعائم حملته الانتخابية أمام منافسته الاشتراكية سيغولين رويال، وهو ما أثار استياء أردوغان وأدى إلى جفاء بين الرجلين. وكان ساركوزي يرى دائما أن تركيا ليست بلدا أوروبيا وبالتالي فمن المفيد إقامة أفضل العلاقات معها ولكن دون انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أحدث ساركوزي بذلك قطيعة مع عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك الذي لم يغلق الباب أمام قبول ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بل ربطه بنتائج الاستفتاء الشعبي الذي يفترض أن يجرى لحسم الموضوع. وفي أبريل 2009 كادت تركيا أن تعطل قمة لحلف شمال الاطلسي نظمتها فرنسا من خلال اعتراضها على تعيين أمين عام جديد للحلف الاطلسي. وفي بداية عام 2012 قام ساركوزي بزيارة قصيرة لتركيا استغرقت نحو خمس ساعات باعتباره رئيسا لمجموعة العشرين ولم ينظر الجانب التركي بعين الرضا إزاء تلك الزيارة معتبرا أن قصر مدتها دليلا على عدم الاحترام , وقبل أن يترك سدة الرئاسة الفرنسية في مايو 2012 وجه ساركوزي، خلال رحلته إلى يريفان، تحذيرا إلى تركيا بضرورة الاعتراف بوجود ابادة ارمنية وهو ما زاد في توتر العلاقات بين الجانبين. وأثر هذا التوتر سلبا على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين حيث تدهورت حصة السوق الفرنسية في تركيا من 6 الى 3 في المئة في الفترة بين 2009 و2012، وفي جميع الأحوال يتفق الجميع على أن الزيارة التي يقوم بها أولاند اليوم إلى تركيا ستشكل دفعة قوية نحو تحسين علاقات البلدين وبدء مرحلة جديدة يكون فيها التعاون هو السمة السائدة لاسيما وأن تركيا اليوم أصبحت من أهم اللاعبين على المسرح الإقليمي والدولي وأصبحت تمسك بالكثير من الخيوط في المنطقة وهو ما يفرض على فرنسا كقوة دولية ذي ثقل أن تحرص على التنسيق معها وتعزيز سبل التعاون في مختلف المجالات دون الأخذ في الاعتبارات بالاختلافات الأيدولوجية والحزبية فلغة المصالح هي المتحكم الرئيسي في العلاقات الدولية.