الجدل الذي دار منذ أشهر حول قضية: "الدستور أولا"، أو "الانتخابات أولا".. لم يكن جدلا بلا معنى، أو نقاشًا بيزنطيًا، بلا داعى!. فالذين رأوا أن الدستور هو ركيزة الأساس لأى بناء قانونى، وديمقراطى، مأمول، وطالبوا بأن تكون خطوة البداية إعداد دستور جديد، يليق ب "مصر الثورة"، ويُعبّرعن طموحاتها وآمالها، بدلا من ترقيع الدستور المهلهل، الصادر عام 1971، ثم تجاوز التعديلات التى جرى استفتاء الناس عليها، يوم 19 مارس الماضى، بإعلان دستورى جديد، صدر يوم 30 مارس، كانت لديهم رؤية منطقية، وصحيحة.. لكن أصحاب "لا" للدستور الجديد، كان لهم رأى آخر: المهم عقد الانتخابات فى أسرع وقت، حتى لو اقتضى الأمر ترقيع الدستور الساقط، أو قبول الإعلان الدستورى المتسرع، مادام هذا كله يصب فى باتجاه توفير فرصة السيطرة على السلطة، والوصول إلى أغلبية "مجلس الشعب": ولا يهم إن كان هذا المجلس يعبر حقا عن الشعب بتنوعاته، أو يمثل قوى الشباب والطبقات الشعبية، التى فجّرت الثورة وضحت من أجلها، وروت الأرض بدماها الطاهرة حماية لها!. وقد تحقق لهذا الفريق ما أراد، وجُرّت البلاد إلى انتخابات، استُخدمت فيها كل الأسلحة، المشروعة وغير المشروعة، واتُهم المنافسون بكل نقيصة، على رأسها الكفر البواح، والخروج عن الملة، حتى خرجت منها القوى الدينية، وأساسا "الأخوان" والسلفيون، بنصيب الأسد، فيما كانت الثورة مثخنة بالجراح، فى ميدان التحرير، تقاوم الجزارين الذين سنّوا السكاكين، وأطلقوا الغازات المسمومة، وتلمظوا لالتهامها، والتهام حلم المصريين، فى الحرية والكرامة الإنسانية والعدل!. ولعب "رأس المال"السياسى، الذى تدفق بالمليارات على جهات بعينها، إضافة لأسباب أخرى، دورا أساسيا فى تقرير مصير الانتخابات حتى قبل أن تبدأ، وإلا فليجيبنى إنسان عاقل: من أين أتت كل هذه المئات من الملايين التى أنفقها أناس، يبدون فى الظاهر رقيقى الحال على حملاتهم الدعائية، التى استخدمت فيها الإذاعة والفضائيات، وإعلانات الطرق، والمطبوعات، فضلا عن لحوم الأضاحى، وعبوات الأرز والسكر، والهدايا العديدة من الأجهزة المنزلية وتليفونات المحمول، والمصاريف الهائلة للمؤتمرات الانتخابية، وتكاليف آلاف المتفرغين للمعركة الانتخابية، والجرائد، ومقرات الحملات الانتخابية...وهلم جرا!. والنتيجة كما تتبدى حتى قبل انتهاء المرحلتين:الثانية والثالثة واضحة، ولكنها ستطرح أسئلة جديدة، وحالّة، وهامة، وستزيد هذه الأسئلة من حيرة المجتمع المصرى وعدم استقرار أوضاعه، على عكس ما كان يزعم مسوقو"الانتخابات أولا"، وهى أسئلة من نوع تلك التى فجرتها أحاديث قادة "الإخوان"، من أنهم إذا ما فازوا بأغلبية البرلمان، فلن يتنازلوا عن حقهم فى تشكيل الحكومة الجديدة،!. والحق أن "الإخوان" وغيرهم من أحزاب "لا للدستور أولا"، سيواجَهون بمعضلة من الصعب تجاوزها، فما يطلبونه لا يتحقق إلا فى دولة برلمانية، تمنح المجلس النيابى الحق فى تشكيل الحكومة، وإعفائها. أما وقد رفضت قوى الإسلام السياسى أن يتم صياغة الدستور أولا، وبما يعنى البدء بتحديد شكل الدولة، وآلية تشكيل الحكومة، ودور وصلاحيات كل من "البرلمان"، و"رئيس الدولة"... إلخ، قبل الانتخابات، حتى تكون ملامح النظام الجديد واضحة ومحددة قبل الشروع فى العملية الانتخابية، فليس أمامها إلا أن تخضع لمقتضى الإعلان الدستورى، الذى هللت له، واعتبرت أن أى اعتراض على مكوناته "خروجا على الإرادة الشعبية!"، وهو ينص فى المادة (56)، البند السابع، على أن "المجلس الأعلى للقوات المسلحة"، الذى يتولى إدارة شئون البلاد، له فى سبيل ذلك مباشرة سلطات متعددة، من بينها سلطة "تعيين رئيس مجلس الوزراء، ونوابه، والوزراء ونوابهم، وإعفائهم من مناصبهم"!. ولأنا لا نملك دستورا نحتكم إليه اليوم، كما نادينا وبُح صوتنا دون مجيب، فلسوء حظ "الإخوان" وحلفائهم، عليهم أن يتجرعوا مرارة ما وافقوا عليه بالأمس القريب، حتى منتصف العام القادم، إن رحل "المجلس"، كما وعد، ذلك أن نص الإعلان الدستورى، نص قاطع الدلالة، لا ينفع فى مواجهته فتاوى جهابذة الفقه الدستورى، حتى ولو كانوا من مقام الأستاذ "صبحى صالح"!. _____________ *مهندس، وكاتب، وسياسى، ووكيل مؤسسي "الحزب الاشتراكي المصري".