تأثُّر الزعماء بالثورات العربية لن يتوقف عند رحيل المغضوب عليهم فقط، بل سيستمر بعد ربيع العرب، ليشكل علاقات جديدة في مستوى القمة وطبيعة الاتصال والتعاون والاختلاف بين الزعماء الجدد، وكذلك الزعماء القدامى المرضيّ عنهم، الذين لم يصلهم لهيب الثورات، لحسن أدائهم، أو لتمتعهم بشرعية أفضل، أو لطبيعة بلدانهم وشعوبهم. وبالتالي، كان من المنطقي تأجيل القمة العربية هذا العام ريثما يتشكل النظام العربي الجديد. وفي الغالب سيبقى آذار (مارس) المقبل موعداً مبكراً، إذْ لا يتوقع أن يكتمل تشكل العالم العربي الجديد حينها. تميزت العلاقات بين القادة العرب منذ تشكّل الدول العربية الحديثة بالتنافسية وحبّ الزعامة. البعض كان عملاقاً بالفعل، وآخرون تعملقوا على حساب شعوبهم. الوزراء واللجان كانوا دوماً مجرد «ديكور» يجرون بين زعيمين عند أي لقاء، بينما المهم هو ما يتفق عليه القائدان الكبيران. كم من مشروع وحدة عربية احتفل به وهُلِّل له وخرجت الشعوب الغافلة تهتف به أمام الزعماء الذين يشاركون ببراعة في العمل المسرحي برفع الأيادي المتشابكة. وبعد توقيع الوثائق وتشكيل اللجان لإتمام الإجراءات، يسأل الوزير المعني بكل خضوع الزعيم الأوحد عن توجيهاته، فيغمز له بعينه ويقول له «صرفهم بمعرفتك». العلاقة كانت دوماً عمودية بين الزعماء. الربيع العربي وتبعاته ستغير هذا الواقع، ولن يكون ذلك سهلاً، فمثلما ستتعثر الخطى نحو الديموقراطية، قد تتعثر العلاقات في طبيعتها الجديدة بين زعماء عرب جدد وقدامى ريثما يتمرسون عليها هم ومن حولهم في الدواوين الرئاسية التي لن تتغير بسرعة في الجمهوريات العربية الجديدة، فالبيروقراطيون يتكيفون مع كل نظام. ولكن النظام العربي الجديد مختلفٌ تماماً عن حالة التحول من عبدالناصر إلى السادات في مصر مثلاً. العلاقة المقبلة ستكون أفقية بين دولة ودولة يمثلهما رئيسان منتخبان، وعلى الرئيس أن يحسب حساب أن نظيره لا يتمتع مثلاً بدعم حزب واحد وإنما هو نتاج ائتلاف بين اثنين. وهو أيضاً لا يستطيع أن يوقع اتفاقاً اقتصادياً أو قرضاً من غير العودة إلى برلمانه المنتخب. في مصر مثلاً، يبدو أن الاتجاه يسير نحو رئيس وزراء واسع الصلاحيات ورئيس جمهورية ليس من الواضح مدى صلاحياته. هل سيكون وجوده رمزياً مسانداً لرئيس الوزراء كعبدالله غل واردوغان في تركيا، أم سيتنافس الاثنان على الصلاحيات؟ وكذلك سيكون الحال في تونس، فالصورة هناك غير واضحة، هل سيميل التوانسة إلى النظام الفرنسي الرئاسي القريب لهم ثقافياً، أم سيحذون حذو المصريين بعد تجربتهم المرة مع الزعماء الخالدين، مثل عبدالناصر وبورقيبة ومن سعوا أن يكونوا كذلك، كمبارك والسادات وبن علي؟ وإذا صح ما قيل من ان السادات أسرّ إلى معاون له قبل حادثة المنصة بأيام، بأنه يريد أن يكون آخر الفراعنة، فإن المصريين بالتأكيد لا يريدون مزيداً من الفراعنة. هل ستقترب مصر أكثر باتجاه تونس، إذ تجمعهما الأسبقية في الثورة والانتصار، أم ستمضي في علاقات شعبية وفق السياق التاريخي مع سورية الجديدة؟ أم أن سورية ستفضل تكاملاً اقتصادياً مع جيرانها المباشرين، الأردن الملكية، ولبنان من غير عقد ما بعد الاستقلال، وعقدة الهيمنة من الجانب السوري بالطبع؟ ولكن لا بد من علاقة مميزة مع مصر، فما نهضت مصر مرة إلا ونظرت شمالاً. ربما لا يعدو هذا أن يكون حديثاً كلاسيكياً قديماً، ولكن ستكون مثيرة للإعلام تغطية المفاوضات بين البلدين، بين حكومتين ديموقراطيتين منتخبتين وليس بين زعيمين، إذ لم يعد هناك زعماء وإنما مجرد رئيس أو رئيس للوزراء يصل إلى دمشق ومعه وفدٌ نصفه رجال أعمال معنيون بمصالحهم التي هي مصلحة الشعب الذي يعمل في مصانعهم ويستثمر ماله في شركاتهم. سيكون خلافاً شيقاً في اجتماع رجال الأعمال السوريين والمصريين الذين سيكونون عصب المفاوضات، ومعهم وزيرا المالية والصناعة في البلدين الشقيقين (يجب ألاّ نفقد الإحساس بهذه العبارات الجميلة وإن أفرغتها العهود السابقة من محتواها)، كل فريق يريد مزايا أكثر وفرصاً وضمانات في البلد الآخر. العلاقة الأكثر إثارة ستكون بين السعودية المستقرة والتي ستحافظ على طبيعتها العمودية وبين الدول الأفقية، خصوصاً مصر، فما بين البلدين لا يحتمل إلا تواصلاً وتعاوناً سياسياً واقتصادياً. قد يحتاج البلدان بعضاً من الوقت للتمرس على طبيعة العلاقات الجديدة بعد سنوات من العلاقات العمودية المباشرة، الملك فيصل وعبدالناصر ثم السادات، فالملك فهد ثم الملك عبدالله ومبارك. نجحت تلك العلاقات في تعزيز العلاقة بين البلدين حتى شكَّلا ثنائية انتظم من حولها العالم العربي (يُستثنى من ذلك حقبة الملك فيصل وعبدالناصر)، فكيف ستكون العلاقة بين ملك السعودية القوي وثنائية رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء المصريين؟ بل ربما تحتاج المملكة أن تتواصل مع رئيس البرلمان، وزعيم الكتلة البرلمانية الموالية وزعيم المعارضة، وربما حتى المرشد العام ل «الإخوان المسلمين»، الذي سيكون مؤثراً من وراء ستار، بل إن شيخ الأزهر المنتخب سيكون مركز قوة يحسب لها حساب أكبر من المجاملات البروتوكولية والمناسبات الإسلامية. قد يحنّ رجال السياسة إلى عهد ما قبل الربيع العربي، لأنه كان أبسط، أما نحن معشرَ الصحافيين، فإن العالم العربي الجديد سيكون جنة لنا، الجميع سيتحدث، التسريبات والمكايدات ما أكثرها، والجميع لديه سرٌّ ما يريد إبلاغنا به، فليحيا ربيع العرب.