* آخرون يحتل القفا موقعا مرموقا فى التراث الشعبى من حيث الكرامة والعزة وارتبطت أشد أنواع الإهانات فى هذا التراث باختراق حرمة القفا والتعامل معه بالمداعبة أو الضرب ، وحسب العديد من الطروحات التى ذكرت أن ضرب القفا كانت إحدى وسائل العقاب فى مصر الفرعونية وأنها كانت وسيلة عقاب حصريه خاصة باللصوص ، الا أن ذلك قد يقع تحت بند التراث الشعبى أكثر منه دائرة الواقع التاريخى . وفى الحقيقة فإن الضرب على القفا كان يرتبط فى كثير من الأحيان بالواقع السياسى المضطرب فلدينا مثلا فى تاريخ الدولة العباسية نصوصا تاريخية تربط بين الإضطراب المجتمعى وبين عادة الضرب على القفا مثل النص التالى الذى يقول ... . وفي يوم عاشوراء عام (421ه / 1030م) أغلق أهل الكرخ أسواقهم وعلقوا المسوح على دكاكينهم وقام البعض بتزوير العملات، وكثر الاستقفاء (أي الضرب بالقفا في الشوارع) وفتح الدكاكين وعمل العملات ليلاً..." فالنص السابق يربط بين الصراع السنى الشيعى فى الدولة العباسية وبين انتشار عادة الضرب على القفا على المستوى الشعبى بين الطرفين امعانا فى الإهانة والإذلال ، وفى نفس ذلك السياق أيضا ما حدث فى تاريخ الدولة العباسية حيث قام أحد رجال الدولة بالخروج على السيادة العباسية ويدعى " البساسيرى " داعيا للدولة الفاطمية الشيعية المذهب متلقيا الدعم الخارجى منها لإحداث ذلك الإنقلاب على السلطة العباسية السنية ، وبالفعل استطاع البساسيرى تحقيق نجاحا مؤقتا واستطاع السيطرة على الأمر فى بغداد فكان الإجراء الأهم الذى قام به البساسيرى أن قبض على الوزير العباسى وأركبه حمارا بالمقلوب وهى عادة عرفت فى التاريخ بإسم التجريس أو التشهير ، وأطلق عوام الشيعة عليه فأهانوه اهانة عظمى وكان كرنفالا للضرب بالقفا وبالأحذية ثم قتلوه فى آخر الأمر . وفى سياق جدلية ارتباط القفا بالتراث والتاريخ والسلطة فالقارىء اذا ما حضر عرضا مسرحيا للأراجوز فإنه قد يلاحظ كثرة ضرب الأراجوز بالقفا ، وقد يبدو الأمر سطحيا الا أن تراثا كبيرا فى تاريخ المعارضة المصرية يرتبط بهذا الأمر ، فالشخصية الشعبية المصرية قد عارضت وزير صلاح الدين الأيوبى " قراقوش " كرها فى سياسته الإستبدادية فابتكروا شخصية القراقوز " الأراجوز " للتدليل على شخصية الوزير قراقوش للسخرية والتهكم والمعارضة اللاذعة مشبعين اياه ضربا على القفا ، واستمر هذا الفعل التراثى الى الآن فى شكل يجسد حالة من ابداع الشخصية المصرية المعارضة . فضلا عن ارتباط الضرب على القفا بتراث الحمقى والمجانين فى التاريخ الإسلامى حتى أن المصادر التاريخية قد أرخت لهذا فحسب احدى النصوص أن رجلا ممن ادعوا الجنون فى الكوفة ويدعى بهلول " كان جيد القفا فربما مر به من كان يحب العبث فيفقده أي (يضربه على قفاه) وحسب الرواية أن بهلول لما رأى ذلك وضع على قفاه قاذورات وجلس على قارعة الطريق فكلما قفده إنسان تركه حتى يجوز ثم يصبح به قائلاً يا فتى شم يدك فلم يعد بعدها أحد يقفده فى حادثة تقترب أكثر للسياق الشعبى المعبر عن تراث تلك الفئات المهمشة . ومن الملفت للنظر أن القفا صار عند هذه الفئات رمزا للإعتداد بالنفس وربما نتذكر جميعا تلك المشاهد البديعة التى جسدها أحمد زكى فى فيلم البرىء عندما كان يسير معتدا بنفسه فكانت علامة هذا الإعتداد شد القفا وكأنه يسير معتزا به وهو المشهد الذى سرق الكاميرا وأعطى دلالات هامة للمشاهد . صفوة القول فقد كان القفا احدى العلامات التراثية المميزة فى التاريخ الشعبى والتى ارتبطت ارتباطا جدليا بشؤون بالتاريخ والسياسة والمجتمع . * رأي مصدر الخبر : البداية