دعونا ننسى قليلاً ما يحدث في مصر الآن، لنعود خمسة قرون من الزمان إلى الوراء، فنتعرّف إلى أحد الحُكّام الذين أصابتهم لوثة السُّلطة. وهو حاكم بزغ نجمه لزمن قصير أواخر سنوات حكم المماليك لمصر، حين أتاحت لحظة من لحظات الحُمق التي تصيب التاريخ أحياناً، لأن تعبث بالبلاد أيدٍ خفيّة، لتضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، فوجد ذلك المملوك نفسه مقذوفاً إلى كرسي الحُكم، الأكثر رحابة من كيانه المتضائل وإمكانياته البائسة! ذلك الرّجل، هو السلطان 'بلباي'، الذي تحدّثت عنه المصادر التاريخيّة وهي تُمعن في الضّحك، مثلما تحدّثت عنه رواية 'السائرون نياماً' لسعد مكاوي (1963). فرغماً عن كلّ النكات التي تمّ تداولها حوله، فقد دخل 'بلباي' أسوأ صفحات التاريخ المصري، ولم يغفل عن ذكره كتاب ابن تغري بردي 'النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة'. لم يحكم 'بلباي' مصر سوى شهرين ظلّ ينقصهما أربعة أيّام. غير أن المشكلة لم تكن تكمن هنا. إذ أنه حتّى خلال الشهرين التي شاءت حتميّة التاريخ أن تقضم منهما بضعة أيّام، لم يكن 'بلباي' فيهما سوى حاكم صوري لمصر، وكان الحاكم الفعلي شخص آخر، هو الدويدار 'خير بك' (لاحظوا الاسم، ولنطلب الرّحمة للقائل: إن التاريخ إذا ما أعاد نفسه، فإنه يأتي مرّة بصورة مأساة، وفي المرّة الثانية بصورة ملهاة!). 'خير بك' هذا، كان الحاكم الفعلي لمصر (نقصد مصر تلك الأيّام). أمّا 'بلباي'، فنراه يسير في شوارع القاهرة مستعرضاً صيده الثمين، وهمَه الكاذب على نفسه. ورغم شاربه الضخم الذي قيل إنه كان في وسع صقرين أن يقفا عليه، إلا أن الشعب بأسره ظلّ يُردد الحقيقة بشجاعة: 'صاحب هذا الشّارب آلة في يد خير بك الدودار، وهذا هو ما رشّحه لمنصب السّلطنة!' ('السائرون نياماً'). لكنّ مثل هذا الأمر لم يكن ليجد اعتراضاً من السلطان 'بلباي'، الذي لم يكف عن السعي إلى خير بك في كلّ الأحوال والتفاصيل ليسنده. فما أن يجلس السلطان (الذي وصفه المصريون آنذاك ب 'الشخشيخة') على كرسيّ الحكم، حتّى يطلب 'خير بك' فوراً. في حين لا يفوتنا أن نسمع الأخير وهو يقول ساخراً من سلطانه: 'هذا شعب النكتة ومع ذلك كنا نحن الذين رفعوا أمامه على العرش بلباي الهزأة، نكتتنا الكبرى!' ( 'السائرون..'). في يوم تتويجه، يعقد 'بلباي' قرانه على زوجة رابعة، جميلة، شهيّة وشهوانيّة، لم تجد لدى السلطان ما تروي به شبقها (ولم يُحِل الحاكم أمر الزواج من أخرى جديدة إلى الناطق الرسميّ باسمه، فمثل هذا الأمر هو من سمات تاريخنا الحديث). يقول أحد المقرّبين من 'بلباي'، إن 'خير بك' كان يدس أنفه الطويل حتّى في مخدع السلطان، مضيفاً: 'حتى في الصيد نغرس له بأيدينا السهام في أعناق الظباء!' ('السائرون..'). لم تبلغ حكمة 'بلباي' درجة القول 'الحق أبلج والباطل لجلج'. فقد قيل إنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة أصلاً، وأنهم (أقصد الذين يحكمون عنه من وراء حجاب) عندما كانوا يحتاجون منه إلى وضع اسمه على القرارات التي يصدرونها عنه، ظلّوا يحرصون على رسم نقاطً تكتب الاسم، فلا يتبقّى له سوى أن يصل بين النقاط. ولذلك فقد انحصرت حكمة 'بلباي' بجملة وحيدة يقولها كلما ووجه بسؤال لا يستطيع الإجابة عليه، إذ يتطلّع نحو 'خير بك'، الذي تُحال إليه أسئلة السائلين، وهو يقول له: 'إيش كنت أنا، قل له'. ولم يفت الشّعب صاحب النكتة إلا أن يُطلق على 'بلباي' لقب: 'إيش كنت أنا، قل له'! يقول المؤرخون الذين قرأوا تلك الفترة، إن المنصب الذي لا يليق ببلباي قد قاده إلى مرض نفسيّ ألزمه الصّمت (مع أن بعضهم الآخر يصيبه مثل هذا المنصب بالمبالغة في الكلام والخطب كلما لاحت الفرصة، مهما بدا القول نافلاً). غير أن الأسوأ من ذلك إن السلطان ظلّ يفرِّغ إحباطاته وعجزه وتضاؤله أمام امرأته المتنمِّرة، بمزيد من سفك الدماء، حيث يؤتونه بعدد من السجناء، فلا يتركهم قبل أن يُروي الأرض بالدم، إذ كان يلذّ لعينيه مرأى معارضيه وهم يتخبطون بدمائهم! في عهد 'بلباي' القصير، ومن ورائه خير بك وجماعته، تداعت أوضاع مصر، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة بشكل غير مسبوق. تزايد البؤس، الذي لم ينج منه سوى قصر السلطان وحاشيته السّادرة في الفساد وترف العيش وبذخ الطعام والشراب والحشيش والجنس، واستفحل طغيان المماليك، فتدهورت أحوال المحروسة، وأصبح الأهالي، بأموالهم وأعراضهم، عرضة للسلب والنهب والخطف الذي تمارسه الجماعة الحاكمة، التي طغت في البلاد وأفسدت فيها. وسرعان ما انقلبت الأمور على بلباي، وتمّ عزله في صراعات المماليك أنفسهم بعضهم ببعض، ثمّ جرى نفيه وسجنه بعيداً عن القاهرة، ليموت وحيداً، كئيباً ومعزولاً وتائه العقل مختلّ العواطف والسلوك، حتى عُرف ب 'بلباي المجنون'! لكن الخراب الذي أسّس له السلطان بلباي، الحاكم المحكوم، بكلّ أشكاله، كان قد دبّ في أرجاء مصر. تزايدت الفئران في الشوارع، وسرحت في السجون المقامة في باطن الأرض تحت القلاع، لتنتشر بعد ذلك في الغيطان، وتتكاثر إلى الدرجة التي جعلت الطاعون يفتك بأرواح البشر في كلّ مكان. وقد أصاب العطب القاتل دولة المماليك نفسها، حتّى أن بعض حكامها لم يعرف الحكم أكثر من يوم واحد لا أكثر! السائرون نياما من أبناء الشّعب، تحرّكوا أخيراً، وكان لا بدّ لهم من أن يتحرّكوا. إنطلقوا في ثورة شعبيّة عارمة، وكانت حركتهم هي بداية النهاية لحكم 'جماعة' طغت.. وتجبّرت! -------------------------- ' كاتب من فلسطين والمقال نقلا عن القدس العربي [email protected]