تنبع المشكلة المائية المصرية، من أن مصر هى أكثر دول حوض النيل اعتماداً على مياه النيل، حيث تتجاوز نسبة اعتماد مصر على النيل 95%، فضلاً عن أن الحصة المصرية السنوية فى مياه النيل " 55.5 مليار متر مكعب " لم تزد منذ عام 1959، حيث لم يكن عدد سكان مصر يتجاوز 26 مليون نسمة، أما الآن فقد تجاوز عدد سكان مصر 84 مليون نسمة، وأصبح المصريون يقعون تحت خط الفقر المائى " 1000 متر مكعب سنوياً "، حيث أصبحت حصة المواطن المصرى فى حدود 750 متراً مكعباً. ومن ثم تؤكد الدراسات حاجة مصر الماسة إلى زيادة حصتها فى مياه النيل إلى 75 مليار متر مكعب سنوياً بحلول العام 2017، وذلك لمواجهة ضغوط الزيادة السكانية وإقامة المشروعات التنموية المستهدفة، حيث توقعت بعض التقارير أن يصل إجمالى كمية الموارد المائية المتاحة فى مصر عام 2017 إلى حوالى 71.4 مليار متر مكعب، فى مقابل الاحتياجات المائية التى سوف تصل فى نفس السنة إلى 86.2 مليارمتر مكعب. فى هذا الإطار، يعتبر تأمين حصة مصر من مياه نهر النيل مسألة مصيرية بالنسبة للدولة المصرية، بل إن هناك من يعتبر أن السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء ما هى إلا انعكاس لمساعى مصر لضمان أمنها المائى. ومن ثم ظل البعد المائى مهيمناً على العلاقات بين مصر وكل دول حوض النيل، باستثناء السودان. ويعود الاهتمام المصرى بالنيل إلى عهود بالغة القدم، حيث قدسه الفراعنة، ورمزوا إليه بالإله "حابى "، وأقسموا على المحافظة عليه. وسعى محمد على وخلفائه إلى استكشاف منابعه، بهدف التوفيق بين مصر الدولة ومصر الطبيعة، لأن مصر الطبيعة هى حوض النيل. وكذا لمنع السيطرة على منابع النيل من جانب أى قوة من القوى الاستعمارية المتنافسة آنذاك، بما يعنى تهديد المركز السياسى والاقتصادى لمصر. ولذلك سعت حملات سليم قبطان الثلاث خلال المدة من 1839إلى 1842 لاستكشاف المنابع الاستوائية للنيل، فيما واصل الخديوى إسماعيل المسيرة، بالاستعانة بالمكتشفين الأوروبيين، وإنشاء الجمعية الجغرافية عام 1875. فتمكنت مصر فى عهده من الوصول إلى منابع النيل الاستوائية حتى بحيرة فيكتوريا، وسميت مدينة غندكرو الواقعة على الحدود السودانية الأوغتندية ب" الإسماعيلية "، وأطلق على بحيرة كيوجا فى أوغندا " بحيرة إبراهيم ". كما بسطت مصر سيطرتها على على عدد من المدن والموانئ الواقعة على البحر الأحمر وأبرزها: سواكن ومصوع عام 1865،وزيلع عام 1875، وتوغلت بعثاتها الكشفية فى شمال وشرق الحبشة، مما أدى فى النهاية إلى نشوب الحرب المصرية الحبشية (1875-1876). لم يكن الوجود المصرى فى أفريقيا يروق للقوى الاستعمارية، فعملت بريطانيا بعد احتلالها لمصر عام 1882على إنهاء هذا الوجود. ومن ثم استطاع الإمبراطور الإثيوبى منيلك الثانى إنهاء الدور المصرى فى هرر، بدعم من بريطانيا وفرنسا وروسيا. كما ضغطت بريطانيا من أجل إخلاء السودان من الوجود المصرى. وانسحبت مصر من مناطق نفوذها فى منابع النيل الاستوائية. ولم يبق إلا سواكن والبحر الأحمر شكلاً تحت اسم مصر، وفعلياً تحت الإدارة العسكرية البريطانية. بالرغم من ذلك، استطاعت مصر خلال العهد الاستعمارى تأمين احتياجاتها وضمان حقوقها المائية، وذلك عبر مجموعة من الاتفاقات التى وقعتها بريطانيا مع القوى الاستعمارية الأخرى، سواء لتأمين الحدود أو لتحديد مناطق النفوذ، أو لتنظيم الانتفاع بالمياه، وذلك بداية من بروتوكول روما لعام 1891، وصولاً إلى المذكرات المتبادلة خلال المدة من 1949إلى 1953 بين مصر وبريطانيا (نيابة عن أوغندا)، بشأن اشتراك مصر فى بناء سد وخزان على شلالات " أوين "، عند مخرج بحيرة فيكتوريا، بغرض توليد الطاقة الكهربائية لصالح أوغندا، وتعليه الخزان ارفع منسوب المياه وتخزينها لصالح مصر والسودان. لكن الاتفاق الأكثر أهمية خلال هذه المرحلة كان اتفاق 1929،الذى جاء فى صورة خطابات متبادلة بين رئيس مجلس الوزراء المصرى آنذاك السيد. محمد محمود، والمندوب السامى البريطانى بالقاهرة، حيث كانت بريطانيا راعية لمصالح السودان وأوغندا وكينيا وتنجانيقا. وتعود أهمية هذا الاتفاق إلى أنه تضمن اعترافاً من بريطانيا بحق مصر الطبيعى والتاريخى فى مياه النيل، واعتبار أن هذه الحقوق مبدأ أساسى من مبادئ السياسة البريطانية. كما أنه أعطى لمصر الحق فى مراقبة مجرى نهر النيل من منبعه حتى مصبه، وتضمن التزاماً على دول الحوض بعدم القيام – بغير سابق اتفاق مع مصر- بأى أعمال للرى أو توليد الطاقة الكهربائية على نهر النيل وفروعه والبحيرات التى ينبع منها يكون من شأنها التأثير على حقوق مصر المائية. كما حدد الاتفاق نصيب مصر من المياه ب48 مليار م3، بينما تحدد نصيب السودان ب4 مليار م3، أى بنسبة 12 إلى1. ومع قيام ثورة 1952فى مصر، كان نهر النيل على رأس أولويات السياسة المصرية فى أفريقيا، وذلك استناداً إلى مجموعة من المحددات أهمها: أن النيل هو المصدر الأساسى لتدبير الاحتياجات المائية المصرية، كما أن إقليم حوض النيل يعد أحد المصادر المهمة لتهديد الأمن الوطنى المصرى، خاصة فى ظل وجود كثير من القضايا العالقة، التى لم يتم الوصول إلى تسوية بشأنها، فضلاً عن مساعى بعض الدول الأجنبية صوب التغلغل فى هذا الإقليم، وتغيير خريطة التوازنات الاستراتيجية فيه، والتأثير على مجريات الأحداث ومحاولة التحكم فى مساراتها. فى هذا الإطار، كانت القارة الأفريقية هى الدائرة الثانية بين دوائر الحركة للسياسة الخارجية المصرية. وتبنت مصر سياسة أفريقية ترمى إلى تصفية الاستعمار ومناهضة العنصرية. وأضحت القاهرة ملاذاً لكافة حركات التحرر الوطنى الأفريقية، وتنوعت مظاهر الدعم المصرى لتلك الحركات من المال، والسلاح، والدعم الإعلامى والسياسى. فى غضون ذلك، نجحت السياسة المصرية فى الاحتفاظ ببعثة دائمة فى منطقة جنجا فى أوغندا، تتولى مراقبة المخزون المائى، وإجراء الدراسات عن منسوب المياه. كما اتفقت مصر والسودان وأوغندا وتنزانيا عام 1956 على إجراء الدراسات على بحيرتى كيوجا وألبرت. ومع سعى مصر إلى التوسع الزراعى والصناعى، ومجابهة مشكلات نقص المياه فى فصل الصيف وأخطار الفيضان، شرعت الحكومة المصرية فى تخزين المياه داخل حدود الدولة، ومن ثم كان التفكير فى إنشاء السد العالى. وتزامن ذلك مع تنفيذ الخطة العشرية للتنمية فى السودان فى عهد الفريق عبود. ومن ثم وقعت مصر اتفاق عام 1959 مع السودان. جاء اتفاق 1959 أكثر شمولاً من اتفاق 1929،حيث أكد مسألة " الانتفاع الكامل بالمياه ". واستند إلى مبادئ الحقوق المكتسبة، وضبط النهر، وتوزيع فوائده، والتحكم فى منع انسيابه إلى البحر. ومنح مصر والسودان حصة مائية إضافية قدرها 4.5 مليار م3، بالنسبة لمصر، و14.5 مليار بالنسبة للسودان. كما شاركت مصر فى مشروع الدراسات الهيدرومترولوجية لحوض البحيرات الاستوائية"هيدروميت"، والذى بدأ عام 1967،مستهدفاً دراسة الميزان المائىلهضبة البحيراتالاستوائية وتجميع البيانات الهيدرومترولوجية الخاصة بالهضبة وإعداد نماذج رياضية توضح استخدامات الدول في الحاضر والمستقبل. وفى مطلع الستينيات من القرن الماضى، بدأت المشكلات المائية مع استقلال دول حوض النيل، حيث أعلنت كل من إثيوبيا وكينيا وتنزانيا وأوغندا عدم اعترافهم بالاتفاقات المنظمة للانتفاع بمياه النيل، خاصة اتفاقيتى 1929و1959، بدعوى أن تلك الاتفاقات تم توقيعها من جانب الدول الاستعمارية نيابة عن دول حوض النيل، التى لم تكن دولاً مكتملة السيادة آنذاك، وأن تلك الاتفاقات جاءت متحيزة لبريطانيا، أو بالأحرى لمصر. وهنا أيدت حكومات الدول المذكورة ما عرف ب " مبدأ نيريرى"، نسبة إلى جوليوس نيريرى، الرئيس التنزانى آنذاك، والذى ذهب إلى أن الدولة المستقلة غير ملزمة بما سبق للدول الاستعمارية التوسعية توقيعه من معاهدات أو اتفاقات قبل الاستقلال. لكن مواقف دول حوض النيل من اتفاقات مياه النيل لم تثمر عن أى نتائج فعلية لتغيير تلك الأطر القانونية أو إعادة النظر فى الحصص المائية لكل من مصر والسودان. ويعود ذلك فى تصورى إلى جملة من الأمور أبرزها: ارتباط اتفاقات المياه بالاتفاقات الحدودية، ومن ثم كان من الصعب جداً نقض تلك الاتفاقات، خاصة مع صدور قرار من منظمة الوحدة الأفريقية بشأن قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار. كما كان للسياسة المصرية النشطة فى أفريقيا، دور فاعل فى إجهاض تحركات دول المنابع، خاصة فى ظل الدعم القوى الذى قدمته مصر لحركات التحرر الوطنى فى القارة، بالإضافة إلى نقص خبرة تلك الدول بالمسائل الهيدروليكية، ومن ثم عجزها عن إدارة عمليات التفاوض فى هذا الشأن، فضلاً عن أن بعض دول حوض النيل مثل الكونغو الديموقراطية، ورواندا ، وبوروندى لم تكن معنية بالأمر، وذلك لانشغالها بمشكلات الداخل، ووفرة مصادر المياه البديلة، وعدم اعتمادها على مياه نهر النيل. وفى عهد السادات، نجحت مصر– بمساندة الدول العربية- فى حشد تأييد الأفارقة ضد إسرائيل، وإرساء دعائم التعاون العربى الأفريقى. لكن هذا الزخم فى العلاقات السياسية لم ينعكس إيجابيا على تفعيل التعاون المائى بين مصر وغيرها من دول حوض النيل، باستثناء بدء المرحلة الثانية من مشروع " هيدروميت" فى مارس 1976، وبدء شق قناة جونجلى فى الجنوب السودانى عام 1980. ويعود ذلك لانشغال مصر بصراعها مع إسرائيل ثم بالتسوية السياسية معها. كما انعكست الصراعات الداخلية وسياسات ومناخ الحرب الباردة سلباً على الاستقرار السياسى والأوضاع الأمنية فى دول الحوض. ومن ثم انخرطت هذه الدول فى مشروعات للتكامل الإقليمى الفرعى على حساب التعاون الجماعى الشامل لكل دول الحوض. ومن هذه المشروعات: التكامل المصرى السودانى، والجماعة الاقتصادية لدول البحيرات العظمى، ومنظمة تنمية حوض نهر كاجيرا. وشهدت السنوات الأخيرة من عهد الرئيس السادات نوعاً من التوتر بين مصر ودول حوض النيل، إثر اقتراح السادات بإمكانية توصيل مياه النيل إسرائيل من أجل رى صحراء النقب والقدس، لتصبح مياه النيل على حد تعبير الرئيس المصرى هى " آبار زمزم لكل المؤمنين بالأديان السماوية الثلاثة ". وفى عهد مبارك، أظهرت السياسة المصرية اهتماماً أكبر بتحقيق الأمن المائى، منطلقة من خمسة ثوابت لسياستها المائية هى: اعتبار حوض النيل وحدة متكاملة، وتطبيق مبدأ الاستخدام المنصف أو العادل للمياه، وقدسية الاتفاقات القانونية المنظمة لاستخدامات النيل، وتنفيذ مصر مشروعاتها المائية فى إطار حصتها المقررة، وعدم نقل مياه النيل خارج حدود دول حوض النيل. وهنا انخرطت مصر فى مشروعات عديدة للتعاون المائى على المستويين الثنائى والجماعى. ومن أبرز المشروعات الثنائية، استكمال شق قناة جونجلى فى جنوب السودان، والاتفاق مع أوغندا فى مايو1991، لأجل توسيع محطة كهرباء خزان أوين، ومشروع مقاومة الحشائش المائية بالبحيرات العظمى فى أوغندا، وتوقيع إطار التعاون بين مصر وإثيوبيا عام 1993، ومشروعات حفر الآبار الجوفية فى كينيا، وإعادة تفعيل اللجنة الدائمة المشتركة مع السودان فى فبراير 1998. وعلى المستوى الجماعى، بادرت مصر بالدعوة إلى إقامة تجمع لدول حوض النيل، بهدف تدعيم التعاون المائى، وتنمية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية لصالح كافة شعوب دول الحوض. وبالفعل أنشئ هذا التجمع عام 1983 تحت اسم " اندوجو ". وهى كلمة سواحيلية تعنى الإخاء. كما بدأ العمل بالمرحلة الثالثة لمشروع " هيدروميت "، منذ عام 1988 إلى عام 1992. بالإضافة إلى تدشين لجنة التعاون الفنى لتدعيم التنمية وحماية البيئة فى حوض النيل " تكونايل " فى ديسمبر 1992.وأخيراً تأسيس مبادرة حوض النيل عام 1999. وقد قوبلت المبادرة بقدر كبير من التفاؤل، واعتبرها الكثيرون بمثابة نقلة نوعية فى العلاقات بين دول حوض النيل. لكن الجهود المصرية التى بذلت من خلال المبادرة لإيجاد نظام قانونى ومؤسسى شامل لتنظيم الانتفاع بمياه نهر النيل واجهها قدر كبير من التعثر، الأمر الذى ظل يمثل نقطة ضعف أساسية فى السياسة المصرية إزاء إقليم حوض النيل، وهو ما يستدعى فتح ملف (مبادرة حوض النيل) . (يتبع) ----------------------------------- * مدرس العلوم السياسية - نائب مدير مركزالدراسات السودانية - جامعة القاهرة