هو واحد من أهم شعراء الموجة الثانية من موجات القصيدة التفعيلية، هذه الموجة التى اصطلح على تسمية المتنمين إليها بشعراء الستينيات، بل هو أهم شعراء هذه الموجة على الإطلاق، وهو أمير شعراء قصيدة الرفض على المستويين السياسى والاجتماعى دون منازع. إنه الشاعر الكبير أمل دنقل الذى تشعر به وقد تعرى من لحمه ودمه وبقى عصبا عاريا يتألم إلى حد الاحتراق ويؤلمك أنت إلى حد االزلزلة. لم يتجاوز عدد القصائد التى قدمها أمل دنقل لديوان الشعر العربى السبعين إلا بقليل، ولم تتجاوز سنوات عمره الأربعين إلا بأقل من القليل، إلا أن هذه السنوات وتلك القصائد كانت كافية لبناء عالم شعرى شديد التنوع والثراء، دفع بصاحبه إلى مصاف كبار الشعراء العرب فى النصف الثانى من القرن العشرين. تميزت قصيدة أمل دنقل بذلك المزج الواعى بين الغنائية والدرامية والحكائية، وكثيرا ما كان يعتمد على تعدد الأصوات فى القصيدة بديلا من الصوت الواحد: -هل تريد قليلاً من الصبر ؟ -لا.. فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقة و الأوجه الغائبة. أما تجربته فى استدعاء التراث وفى توظيفه فى نسق شعرى متين، وفى بناء فكرى قوى فإنها تستحق وقفات طويلة للتأمل، إنه دائما يستدعى شخصيات تشبهه، نعم تشبهه هو شخصياً. يستدعى عنترة العبسى الذى تنساه القبيلة فى مجالسها ومنتدياتها ومواطن تكريمها، وحتى فى موائدها، ولا تتذكره إلا فى مصائبها وكوارثها ووقائعها، مدعو هو فقط لكى يبذل دمه من أجل القبيلة: ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان أجتزُّ صوفَها.. أردُّ نوقها.. أنام في حظائر النسيان طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة. وها أنا في ساعة الطعانْ ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ دُعيت للميدان! أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن.. أنا الذي لا حولَ لي أو شأن.. أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ، أدعى إلى الموت .. ولم أدع الى المجالسة!! تكلمي أيتها النبية المقدسة تكلمي .. تكلمي.. فها أنا على التراب سائلٌ دمي ثم هو يستدعى سبارتكوس العبد الثائر الذى جرؤ على أن يقول : لا، فاعتبرته الحكومات شيطانا لأنها اعتبرت نفسها آلهة. وهو طبعا يستدعى زرقاء اليمامة التى مُنحت القدرة على أن ترى البعيد، كما مُنح الشاعر القدرة على استشراف القادم، فلا هم صدقوها ولا هم أنصتوا إليه: قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ.. فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار! قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار.. فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار! وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا.. والتمسوا النجاةَ والفرار! حتى حين يستدعى أبا موسى الأشعرى، فإنه يستدعى فيه الروح الثائرة التى أرادت أن تعيد الحكم إلى الشعب ليختار هو حاكمه بنفسه، وليت الأمة قد فهمت : حاربتُ في حربهما وعندما رأيتُ كلا منهما.. مُتَّهما خلعت كلا منهما! كي يسترد المؤمنون الرأيَ والبيعة .. لكنهم لم يدركوا الخدعة! وطبعا حين يستدعى شخصية "كليب"، فإنه يستدعى فيه ذلك المطالب بالثأر والحق مستعيرا نبرته وصوته ليهتف"لا تصالح". وهو سيثير جدلا طويلا حين يستدعى شخصية ابن نبى الله نوح عليه السلام، مخرجا إياه من سياقه الدينى إلى سياق اجتماعى ووطنى يعتصم فيه من الطوفان بالشعب لا بالجبل، حين يرى أن انتهازيى الوطن قد صوروا أنفسهم –كاذبين- وكأنهم هم أتباع نوح عليه السلام الذين كتبت لهم النجاة من الطوفان، على الرغم من أنهم هم من أكلوا خير الوطن ثم قفزوا إلى السفينة حين جاء الطوفان. لم تشتهر أسماء دواوين أمل دنقل الستة فقط: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"... "تعليق على ما حدث"... ."مقتل القمر"... "العهد الآتي".... "أقوال جديدة عن حرب البسوس"..."أوراق الغرفة 8"، بل اشتهرت أسماء قصائده ذاتها: لا تصالح، الجنوبى، الكعكة الحجرية، كلمات سبارتكوس الأخيرة، الخيول، البكاء بين يدى زرقاء اليمامة، تعليق على ما حدث، ..... إلخ وكأن كل قصيدة منها ديوان شعرى فريد. -------------- المقال منشور في المشهد الأسبوعي المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية