أيا أماه كم سر مصون بقلبك مات ليس له ظهور إلى من أشتكى وبمن أناجى إذا ضاقت بما فيها الصدور؟!؟ بأى دعاء داعية أوقى بأي ضياء وجه أستنير؟!؟ بمن يستدفع القدر المرجى بمن يستفتح الأمر العسير؟!؟! نسلى عنك أنا عن قليل إلى ما صرت في الأخرى نصير بمثل هذه الأبيات التى تفيض ألماً ووجعاً، كان أبو فراس الحمدانى يتلقى - فى أسره- الأخبار الموجعة القادمة من أهله، وفى ذروتها خبر وفاة أمته التى كانت هى همه الأكبر وحبله السرى الذى يبرطه بالحياة. أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ:...أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي؟! مَعاذَ الهَوى؛ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى..وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمومُ بِبالِ أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ..عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ؟! أَيا جارَتا،ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا...تَعالَي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي تَعالَي تَرَي روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً....تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذِّبُ بالِِ أَيَضحَكُ مَأسورٌ وَتَبكي طَليقَةٌ...وَيَسكُتُ مَحزونٌ وَيَندِبُ سالِ؟! لَقَد كُنتُ أَولى مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً...وَلَكِنَّ دَمعي في الحَوادِثِ غالِ! وحين تتغير موازين الأحداث، ويخرج أبو فراس من أسره بعد تباطؤ شديد من ابن عمه وزوج أخته سيف الدولة الحمدانى، يجد أن مياهاً كصيرةو قد جرت فى نهر الحياة، وأن حلب لم تعد حلب، بل وأن ابن عمه لم يعد هو هو. ها هو سيف الدولة الحمدانى وقد أمسى قعيداً يخشى على إمارته من الخارج ومن الداخل، وهاهو قائد جيشه (قرغويه) تتصاعد سلطته أكثر وأكثر، إلى أن يتوفى "سيف الدولة" مخلفاً ابنه أبا المعالى فتى غراً يمضى به إلى حيث شاء. حينها يرى أبو فراس أن الدولة التى باع عمره من أجلها تضيع بين قائد طامع وفتى غرير، وكأن كل ما لاقاه فى حياته يثور فى نفسه، فيتذكر مقتل أبيه، ويتذكر وقوعه هو فى الأسر، ويتذكر تباطؤ ابن عمه وزوج أخته وأميره "سيف الدولة" عن افتدائه، ويرى هذا الحلف المريب الجديد بين قرغويه وأبى المعالى، ويتيقن من أن عمره يضيع مجددا مع ضياع الدولة، فيثور على هذا النكوص الشديد. ساعتها لا يتورع قرغويه فى أن يستعدى أبا المعالى على خاله "أبى فراس" الذى يصوره له باعتباره طامعاً فى ملكه، طالباً لثأر أبيه. وتتطور الأحداث بسرعة وجنون، إلى أن يدفع "أبو فراس" عمره فعلاً لا مجازاً، على يدى قرغويه ورجاله، وتكون خاتمة حياته هذه الأبيات التى تقطر ألماً نبيلاً موجعاً، هو بخاطب ابنته قائلا: أبنيّتي لا تحزني -- كل الأنام إلى ذهابْ أبنيّتي صبراً جميلاً -- للجليل من المصابْ نوحي عليّ بحسرةٍ -- من خلفِ ستركِ والحجابْ قولي إذا ناديتني -- وعييتُ عن ردِّ الجوابْ زين الشباب أبو فراسٍ -- لم يمتَّعْ بالشبابْ